فإن من أعظم سعادةِ الرُّوحِ, والقلبِ, والبدنِ, طلب العلم النافع؛ الذي يدل على الله ويقرب العبد منه, فإن في مشقة هذا العلم لذة لا تعدلها لذة, ولولا جهل الأكثرين بحلاوةِ هذه اللذة, وعِظَمِ قدرها لتجالدوا عليه بالسيوف, ولكن حُجبوا عنها بحجاب من جهل, ليخص الله من شاء به من عباده, والله ذو فضلٍ عظيم, وقد يتعرض الطالب في أول الطلب إلى مرارة وغصص بسبب ما تراكم على القلب من أمراض الجهل ولكن سرعان ما تزول بالصبر والاستمرار.
لقد دل الله عليهم, وأرشد إليهم فقال تعالى:
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل: 43].
وقال تعالى:
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [سورة التوبة: 122].
فالعلماء هم صمام أمن الأمة, وبها يعلي الله قدرها ويرفع شأنها, وهم ورثة النبي صلى الله عليه وسلم, وتفرغهم للعلم وطلبه مطلب أساسي يجب على الأمة أن تدركه.
وأفضل الإنفاق, وأقرب الصَّدقات, وأعظم القُرُبات؛ ما تقرب به العبد في نشر العلم والإعانة عليه, وأن يطلب الأتقياء المعرضين عن الدُّنيا المتجردين لتجارة الآخرة؛ الَّذِين يستعينون بهذه الصَّدقة على طاعة الله, فتكون شريكًا لهم في طاعته سبحانه وتعالى بإعناتك إياهم, فإن همم هؤلاء لله؛ فإن طرقتها فاقة تشتَّتَ هَمُّه, فلئن تَرُدَّ هَمَّ أحدهم إلى الله تَعَالَى؛ خيرٌ لك من أن تُعْطِي ألفًا ممن همته الدُّنيا, فالعلم أشرف العبادات, وأصحابه مشغولون به, فإن انقطعوا لغيره ضيَّعوه, فهم أولى أن تنفق لهم الأموال, ويبذل لهم الفضل, وتتجه إليهم القلوب؛ لأن الكُلَّ عنهم غافل, فهم مستترون مخفيون, لا يكثرون البث والشَّكوى, قَالَ تَعَالَى:
{يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ من التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاس إِلْحَافًا} [سورة البقرة: 273].
ولقد بين النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لا حسد في مال إلا لمنفق أنفق ماله وأهلكه في الحقِّ.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ, رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ, وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا». (1)
فانظر كيف قَرَن النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين العلم والنَّفَقة في من يستحق أن يغبطه النَّاس ويستوجب الحسد؛ من رزق بركة العلم فهو أعلى الدَّرجات وفي من ينفق ماله في الحقِّ, وليس هناك حق أفضل من الإنفاق على طلبة العلم, وفي نشر العلم.
وكان لابن المبارك السبق في ذلك, فكان ينفق على جُلِّ علماء زمانه ويفتخر بهذا ويفرح, ليحض على معونة ومساعدة هؤلاء, ولقد كان العلماء يفرحون بصلته ويعظمونها لما يعلمون أنها من خالص الحلال رغم أن غالبهم كان يرد صلة الخلفاء والأمراء.
فالوقف على طلبة العلم والعلماء وكفايتهم مؤنة الدنيا وتفريغهم للعلم الشرعي من أعظم القربات وأجل ما يبذله العبد في باب الصدقات.
قال حبان بن موسى: "عوتب ابن المبارك فيما يفرق من المال في البلدان دون بلده, فقال: إني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق, طلبوا الحديث فأحسنوا طلبه لحاجة الناس إليهم, احتاجوا! فإن تركناهم ضاع علمهم, وإن أعناهم بثوا العلم لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم". (2)
فأفضل نعمة طلب العلم ومن أعانه على الطلب فهما في الأجر سواء.
فالإنفاق على العلم من الإنفاق في سبيل اللَّه وطرق الخير والبر، إذ هو من أعظم جهات البر، وقد جعل بعض العلماء الإنفاق على العلم يعدل الإنفاق على الجهاد في سبيل اللَّه، لما روى أنس رضي اللَّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ كَانَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ».(3)
ولأن الجهاد جهادان:
جهاد بالعلم والبيان: وكان هذا جهاد النبي صلى الله عليه وسلم في المرحلة المكية.
وجهاد بالسيف والسنان: وهذا جهاد النبي صلى الله عليه وسلم في المرحلة المدنية مع الجهاد السابق.
قال ابن نجيم -رحمه اللَّه-: "... فعلى هذا إذا وقف على طلبة علم بلدة كذا يجوز...". (4)
قال ابن عابدين -رحمه اللَّه-: "مطلب في حكم الوقف على طلبة العلم... قوله: وإن على طلبة العلم: ظاهره: صحة الوقف عليهم...". (5)
وقال الخرشي -رحمه اللَّه-: "ويتأبد الوقف إذا قال تصدقت على الفقراء والمساكين، أو على المساجد, أو طلبة العلم وما أشبه ذلك... ". (6)
وقال النووي -رحمه اللَّه-: "وإن وقف على جهة معصية كعمارة الكنائس فباطل، أو جهة قربة كالفقراء، والعلماء, والمساجد، والمدارس صح ". (7)
وفي
(مغني المحتاج): "والمراد بالعلماء: أصحاب علوم الشرع ". (
وفي
(كشاف القناع): "الشرط الثاني: أن الوقف على بر... كالفقراء والمساكين والغزاة والعلماء والمتعلمين وكتابة القرآن... والمساجد والمدارس...". (9)
الوقف على دور العلم:
ولذلك نرى في العصور الماضية لما علم الأمراء والأثرياء من الناس خطورة إهمال باب النفقة على العلماء وطلبة العلم ودور التعلم كانوا يوقفون أموالا من أجل ذلك من أرض ودور وعقارات وغيرها، تكون وقفا لطلب العلم الشرعي.
فمثلا:
الوقف على الحرمين:
فقد كان للحرمين وقف في كل بلاد المسلمين ينفق على علماء وطلبة علم أرض الحرمين وأوقاف الحرمين كانت تأتي من الآستانة ومصر والشام والعراق واليمن وغيرها من البلاد.
ثم يسر الله للحرمين دولة كاملة وهي الدولة السعودية؛ أوقفت ميزانية الدولة لخدمتهما ورعاية شؤنهما فما من غالي أو نفيس إلا وينفق على الحرمين في مختلف الشؤون والتخصصات، وصار علماء الحرمين وطلابهما في خير حال إلا أن هذا ضيق على البعض دون الآخر لاتساع الرقعة وعدم إدراك الراغب.
فإن من أعظم الأسباب المعينة لطالب العلم سهولة الرزق وطلب العيش, وأن يكون حلالا, فإن طالب العلم يحتاج من الدنيا إلى ما يبلغه إلى الآخرة, فكلما كانت الدنيا له معوق كان على حساب الآخرة, فالدنيا مزرعة الآخرة ومدرجة إليها, والناس في أمر الدنيا متفاوتون فمنهم من شغلتهم الدنيا عن الآخرة, ومنهم من شغلته آخرته عن دنياه, ومنهم من شغله معاشه لمعادة وهم أهل الاعتدال, فهو من المقتصدين, ولن ينال رتبة الاقتصاد من لم يلازم في طلب المعيشة منهج السداد, ولن ينتهض من طلب الدنيا وسيلة إلى الآخرة, ما لم يتأدب في طلبها بآداب الشريعة فقد جعل سبحانه التكسب من الدنيا وسيلة, وضبطت بضابط من الشرع, قال تعالى:
{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [الأعراف : 10].
وقال تعالى:
{وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} [الإسراء: 12].
وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتكسب وطلب معاش الدنيا وحذر من أن يكون العبد عالة على الناس أعطوه أو منعوه .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ رَجُلًا فَيَسْأَلَهُ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ». (10)
فلا يعني النفقة على طالب العلم أن يتكفف الناس ويتطلع إليهم ولكن عليه ببذل الأسباب والتصبر ولابد لتوجيه الأغنياء لهذا الباب أي باب الإنفاق على طلبة العلم وإعانتهم في الطلب.
فمن أعظم النعم وأجل المنن أن يوفق العبد إلى العلم النافع؛ فبه سعادة الدنيا والآخرة، فلو جمع نعيم الدنيا ما عدل نعيم طالب العلم، فقد يكون في أول طريقه مضيق عليه متعسر عليه النفقة -في جهد وبلاء- ولكن إن صبر عوضه الله خيرا في الدنيا والآخرة، فهذا القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة يذكر قصته في أول الطلب.
عن علي بن الجعد قال: أخبرني يعقوب بن إبراهيم أبو يوسف قال: "توفي أبي وخلفني صغيراً في حجر أمي، فأسلمتني إلى قصّار (11) أخدمه، فكنت أدع القصار وأمر إلى حلقة أبي حنيفة، فأجلس فأستمع، وكانت أمي تجيء خلفي إلى الحلقة فتأخذ بيدي، وتذهب بي إلى القصار، وكان أبو حنيفة يعنى بي، لما يرى من حرصي على التعلم، فلما كثر ذلك على أمي قالت لأبي حنيفة: ما لهذا الصبي فساد غيرك، هذا صبي يتيم لا كسب له، وأنا من أطعمه من مغزلي، وآمل أنه يكسب دانقاً يعود به على نفسه. فقال لها أبو حنيفة: مُري يا رعناء، ها هو ذا يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق. فانصرفت وقالت له: أنت شيخ قد خرفت وذهب عقلك.
ثم لزمته، فنفعني الله بالعلم، ورفعني حتى تقلدت القضاء، وكنت أجالس الرشيد، معه على مائدته، فلما كان في بعض الأيام قدَّم إليَّ هارون فالوذجة بدهن فقال لي هارون: "يا يعقوب، كُلْ منه، فليس كل يوم يعمل لنا مثله". فقلت: "وما هذه يا أمير المؤمنين؟"، فقال: "هذه فالوذجة بدهن الفستق"، فضحكت. فقال لي: "مم تضحك؟"، قلت: "خيراً، أبقى الله أمير المؤمنين". فقال: "لتخبرني". وألحَّ عليَّ، فأخبرته بالقصة من أولها إلى آخرها، فتعجب من ذلك، وقال: "لعمري إن العلم يرفع وينفع دنيا وآخرة". وترحم على أبي حنيفة، وقال: "كان ينظر بعين عقله ما لا يرى بعين رأسه".
(المنتظم (3/142).)___________________________________
(1) رواه البخاري (73) مسلم (815).
(2) تاريخ دمشق32/455).
(3) أخرجه الترمذي في العلم, باب: فضل العلم(2649) وحسنه.
(4) البحر الرائق (5/199).
(5) حاشية ابن عابدين (3/387).
(6) شرح الخرشي على مختصر خليل (7/89).
(7) المنهاج مع مغني المحتاج (2/381).
( المنهاج مع مغني المحتاج (2/381).
(9) كشاف القناع 4/245.
(10) البخاري (1470)، مسلم (1042).
(11) الذي يقصر الثياب (لسان العرب).
م
مـــ ماجده ـلآك الروح