الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فإن الناظر بعين الاعتبار إلى أحوال الناس قبل ظهور الإسلام يرى عجائب وغرائب، من الجهالات والظلمات، التي أضلّت الكثير عن طريق الهداية والرشاد، فالأصنام تُدعى وتُرجى، ومجالس الخمر معمورة صباح، والظلم مرفوعة رايته وقد تلوثت في أوحاله أقدام الكثيرين. شاهد المقال: أن حياتهم لم تزل في ظلمات الجهل والفوضى حتى بعث الله محمّداً صلى الله عليه وسلم، فأخرجهم الله تعالى به من الظلمات إلى النور، ومن الذل والمهانة إلى العزة والمكانة، فأمسكهم بزمام الأمور، وتوالت الفتوحات والانتصارات، ولم يزالوا في رفعة وعزة بسبب تمسكهم بدينهم. ومع تقادم الزمن بدأ الضعف يدب إليهم بسبب بعدهم عن دينهم، ويزداد ضعفهم بقدر ابتعادهم عن دينهم، وهذه بعض الأسباب التي أدت إلى ضعف أمة الإسلام، وانهزامها بين الأمم: · الإعراض عن حكم الله والجهل بأحكام الدين. · والإعجاب والتبعية المطلقة لأعداء الإسلام. · والعصبية الجاهلية لجنس أو لون أو لسان. · واليأس والقنوط. · وتعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فما هي الأسباب التي ترتفع بها الأمة، وتأخذ مكانها اللائق بها؟ السبب الأول: التمسُّك بالكتاب والسنة: منهجاً وعقيدة، ففي ذلك الفلاح كله والخير كله، فلا فلاح إلا بالأخذ بهما معاً، وتحكيمهما في جميع مجالات الحياة {وأطيعُوا اللهَ والرَّسُولَ لعلَّكُم تُرحمون} [آل عمران: 132]، {قُل إن كنتم تُحبُّون الله فاتَّبعوني يُحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفورٌ رحيمٌ} [آل عمران: 31]. وقال صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنتي». والنصوص في هذا الموضوع كثيرة جداً. وبكل حال فالتمسك بالكتاب والسنة من أعظم أسباب الفلاح في الدين والدنيا، ويتبع التمسك بهما- أو من لازم التمسك بهما- محاولة البدع والتحذير منها، وعدم الغفلة أو التهوين من شأنها مهما صغرت، فإن البدع إذا غُفل عنها زاد انتشارها فكيف إذا أقرَّها من عملها أو هوّن من شأنها؟ لا شك أن هذا من الجهالة بمكان، بل هو من أعظم أسباب الهزيمة النفسية، ويُلقى أكثر حمل هذا على من زعم الإصلاح بخلاف ما كان عليه منهج سلف الأمة وقدوتها. السبب الثاني: الالتفاف حول العلماء: الالتفاف حول علماء الأمة الراسخين في العلم، المعروفين بصلاح المعتقد، وسلامة المنهج، فالقرب من أولئك والاستئناس بآرائهم والصدور عن رأيهم فيه مصلحة عظيمة للأمة وشبابها. فعلماء السنة أدرى الناس بمعالجة قضايا الأمة، وهم أبصر الناس بمجاراة واقعها وإيجاد الحلول الناجعة لها، فأولئك الثلة من العلماء لا تصدر آراؤهم إلا بعد النظر في النصوص الشرعية، فثوابهم مضاعف مأجور وخطأهم غير مأزور بل مأجور، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فحكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فحكم فأخطأ فله أجر واحد». السبب الثالث: قراءة التاريخ الإسلامي: إعادة النظر في تاريخ المسلمين المجيد التليد، لا من باب التسلية والمواساة والتواكل، بل من باب شحذ الهمم وبعث العزائم، وكيف كان المسمون الأوائل أقوياء حسّياً ومعنوياً، وكيف كان تمسكهم بدينهم واعتزازهم به حتى دانت لهم الأمم، وخضعت لهم الأعداء، نصروا الله فنصرهم وأعزّوا الإسلام فأعزَّهم الله تعالى به. السبب الرابع: التفاؤل بأن النصر للإسلام: التفاؤل والقطع بأن النصر للإسلام وأهله، كما جاءت بذلك النصوص الكثيرة التي تدل دلالة واضحة على ذلك من ذلك قوله تعالى: {هُو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدِّين كُلِّه ولو كره المشركون} [التوبة: 33]، وقد ذكر بعض المفسرين عند هذه الآية عدداً من الأحاديث النبوية المبشرة بظهور الإسلام وعزته، فمن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى. فقالت عائشة- رضي الله تعالى عنها-: يا رسول الله، إن كنت لأظن حين أنزل الله: {هُو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين كُلِّه ولو كره المشركون}، أن ذلك تام، فقال صلى الله عليه وسلم: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله». وعن ثوبان- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإنّ أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها» [أخرجه مسلم]. ومن ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل به الكفر» أخرجه الإمام أحمد وغيره عن تميم الداري- رضي الله تعالى عنه-، ثم قال تميم- رضي الله عنه- بعد أن ساق الحديث: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان كافراً منهم الذل والصغار والجزية. السبب الخامس: الحذر من اليأس والقنوط: وقتل الهمم والعزائم لكثرة ما يرى ويسمع من مصاب الإسلام في أي مكان أو زمان، فعلى المسلم أن يغلق عن نفسه باب اليأس والقنوط بأحكم الأقفال وأوثقها، وأن يحسن الظن بالله- تعالى، وأن يستشعر معاني الآيات المُحذِّرة والمُرهِّبة من اليأس، كقوله تعالى: {لا تقْنطُوا من رَّحْمة الله...} [الزمر: 53] وقوله تعالى: {ومن يقنط من رحمة ربه إلاَّ الضاَّلُّون} [الحجر: 15] وقوله تعالى: {ولا تيْأسوا من رَّوح الله إنَّه لا يَيْأس من رَّوح الله إلا القومُ الكافرون} [يوسف: 87]. وعلى المسلم أيضاً في الوقت نفسه أن يتذكر النصوص المبشرة والدالة على حصول اليسر بعد العسر، كما في قوله- تعالى: {حتَّى يقول الرَّسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إنَّ نصر الله قريبٌ} [البقرة: 214]، وكقوله تعالى: {حتَّى إذا استيأس الرُّسل وظنُّوا أنَّهُم قد كُذِبوا جاءهم نصرنا فنُجِّيَ من نَّشاء ولا يُردُّ بأسُنا عن القوم المجْرمين} [يوسف: 110]. إلى غير ذلك من النصوص والأخبار التي تذكي العزائم، وتشحذ الهمم. السبب السادس: استشعار المسئولية: من كل فرد من أفراد المجتمع، وذلك أن يشعر كل واحد من المسلمين مهما كان موقعه وشأنه أنه مسؤول ومساءل، فيبدأ بإصلاح نفسه وبيته، ثم تتسع دائرة الإصلاح حتى تشمل جلساءه وجيرانه ومجتمعه، وليعلم كل واحد منا أنه على ثغر من ثغور الإسلام، فليحذر أن يؤتى الإسلام من قبله. فعلى الكاتب منّا أن يُسخِّر قلمه لخدمة الإسلام ونصرته، وعلى التاجر أن يراعي أولاً حق الله تعالى من زكاة ونفقة، ثم عليه أن يجعل من ماله نصيباً في دعم الإسلام والمسلمين، وليعلم أنه مهما بالغ في الإنفاق فإن ذلك خير وأنفع سبيلاً {وما تُقدِّموا لأنفُسكم من خيرٍ تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً} [المزمل: 20]. وقال صلى الله عليه وسلم: « ما نقصت صدقة من مال » [أخرجه مسلم]. شاهد المقال: أن على كل واحد أن يستشعر أنه على ثغر من ثغور الإسلام، فيؤدي ما يقدر عليه من دعم الإسلام والمسلمين مهما كان حجم ذلك الدعم، ولو كان يسيراً في نظره أو نظر الآخرين، فربما يكون ذلك اليسير عظيماً حيناً من الدهر، قال صلى الله عليه وسلم: «لا تحقرن من المعروف شيئاً...» السبب السابع: عدم الاغترار: بل الحذر من الاغترار بالكثرة والعُجب بالعدة والعتاد، فالكثرة لا تنفع أصحابها شيئاً إذا كانت النفوس صغاراً. وإذا كانت النفوس كباراً ... تعبت في مرادها الأجسام فالتفاخر بكثرة العدد مذموم شرعاً، بل في غالب أمره يؤدي بأصحابه إلى العجب ثم الانهزامية، وقد جاءت نصوص تبين ذم الكثرة العددية في غالب أحوالها، كما في قوله تعالى: {وإن تُطع أكثر من في الأرض يُضلُّوك عن سبيل الله} [الأنعام: 116]. {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مُّشركون} [يوسف: 106]. {وما أكثر النَّاس ولو حرصت بمؤمنين} [يوسف: 103]. {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} [البقرة: 249]. {اعملوا آل داوود شكراً وقليلٌ من عبادي الشَّكور} [سبأ: 13]. {وإنَّ كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلاَّ الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات وقليلٌ مَّاهم} [ص: 24] إلى غير ذلك من الآيات. وأما السنة: فعن ثوبان- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها» قال: قلنا: يا رسول الله، أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: «أنتم كثير، ولكن تكونون غثاءً كغثاء السيل، ينتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن» قال: قلنا: وما الوهن؟ قال: «حب الحياة، وكراهية الموت» [رواه الإمام أحمد وغيره]. السبب الثامن: اجتناب المعاصي: والحذر والتحذير منها، فالمعاصي مفتاح لكل شر، ومغلاق لكل خير، وبسببها يتصدع كيان الأمة وتزول هيبتها، وتكون مقودة بعد أن كانت قائدة، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلَّك الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم». السبب التاسع: التنبه لمكائد الأعداء: والحذر منها؛ لأنها تتنامى وتزداد بحسب تجاهلها وعدم إلقاء البال لها، وفي الوقت نفسه تتبلد أحاسيس كثير من الناس تجاهها، ومن ثمَّ يستمرئونها ويتأقلمون عليها. شاهد المقال: أن كيد شياطين الإنس والجن مستمر في شره واستفحاله، والواجب على كل مسلم أن يحذر ويُحذِّر من الخداع ببريقه. السبب العاشر: عدم التهويل من شأن العدو: إلى حد إدخال الرعب في قلب ضعاف الإيمان واليقين، وذلك بذكر عدد العدو، وعدته، وعتاده بصورة تظهره بمظهر الغالب الذي لا يُغلب، فهذا مما يعين على فقدان الشعور، بل مجرد التفكير بالنصر. ولا شك ولا ريب أن هذا من الخطورة بمكان، إذ أن الهزيمة النفسية أعظم من الهزيمة الحسية، فالهزيمة الحسية مؤقتة، بوقت تزول بزواله، أما المعنوية فتبقى ملازمة أصحابها أمداً طويلاً. وبكل حال: فالحذر الحذر من التضخيم والمبالغة في إظهار العدو، بل الأولى بالمسلم أن يكون سبباً في شحذ الهمم والعزائم، وحث النفوس على حسن الظن بالله تعالى، وكذلك على فعل ما يستطاع من الأسباب والوسائل التي تكون عوناً- بعد الله تبارك وتعالى- في هزيمة العدو وكسر شوكته {وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قُوَّةٍ ومن رِّباط الخَيْل تُرهبون به عَدُوَّ اللهِ وعدوَّكُم... } [الأنفال: 60]. اللهمَّ أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين، اللهم أصلح أحوال المسلمين وردّهم إلى دينهم رداً جميلاً. وصلى الله وسلم على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم. دار القاسم: المملكة العربية السعودية_ص ب 6373 الرياض 11442 هاتف: 4092000/ فاكس: 4033150
مـــ ماجده ـلآك الروح