إن الإسلام كعقيدة وشريعة مجموعة مِنَ العُرَى التي تتواصل مع بعضها البعض، والناظر في أحوال المسلمين اليوم يجدهم قد تركوا كثيرًا من العُرَى فانفرط عقدهم، وتفرق شملهم، وتغلب عليهم عدوهم، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يوشك أن تنقضى عُرى الإسلام عُروة عروة".
فالإسلام عُرىً؛ من ترك عروة رضى بهدم حجر من صرح إسلامه، ومِنْ هنا أُصيبَ المسلمون في دينهم، وهم لا يشعرون أن سُنَّة مع سُنَّة تُكَوِّنُ الدِّينَ، ومُسْتَحَبٌّ مع مُستحبٍّ يكمل الإيمان، واقتراف مَكْرُوهٍ مع مكروه صدع في الإسلام وثلمة في الإيمان.
وقال الإمام مالك رحمه الله: (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها) وأوائلنا وسلفنا الصالح هم الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وأئمة الدين العدول كالأئمة الأربعة وأهل السُّنَّة والجماعة.
ولا يمكن جمع المسلمين إلا على ما كان عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحابته من عقيدة وأحكام ومعاملات وسلوك وهدى، وإنما تفرق المسلمون بعد ذلك؛ بسبب انحرافهم عن الهدى النبوى وإحداث بدع في العقيدة والعبادات والتشريع ومن قول على الله بغير علم.
ومن هنا كان لزامًا علينا أن نراجع أنفسنا بين الفينة والأخرى، ونزن حركاتنا وسكناتنا بميزان الكتاب والسُّنَّة، ولكن ما أبعدنا اليوم عن سُنَّة نبينا صلى الله عليه وسلم وما أعظم الفرق بيننا وبين الأوائل الذين قال فيهم ابن مسعود: (إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أبرَّ هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا).
ولا يمارى أحدٌ من أن البونَ شاسِعٌ بين دين الله وأوامره، وبين ما نحن فيه اليوم من مظاهر الفساد والإفساد، ولا يمارى أحدٌ من أن الفرق شاسع بين العزِّ والتمكين الذى كان يتمتع به الأوائل، وبين الذُّلِّ والمهانة التي نحن فيها اليوم: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت46]
إنَّ الذى يعتقد أن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجعية أو العمل بسُنَّته تَزَمُّتٌ كيف ينعم بالعزِّ والتَّمكين.
إنَّ الذى يشق طريق كل معصية ويَعِزُّ بكل رذيلة، ويرفع كل وضيع، ويضع كل عزيز.. كيف ينعم بالعز والتمكين!.
إن الذى يدعو إلى الكفر بعين ملْؤُهَا غبطة، ويرى المعترض رجعيًّا؛ ويستحق الطرد والحبس كيف تُقام له قائمة.
إن الذى يعتقد أن الخنا والزنا والبغاء والفجور طريق للتقدم والمدنية والنهضة كيف يتفوق على الغرب! بل كيف يهديهم إلى طريق الحق وهو أبعد ما يكون عنه: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرعد11] {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم42].
وإنَّ ما نحن فيه من هزيمة نفسية وتأخر النصر لا بدَّ حاصل بسبب كثرة المعاصي والبعد عن شريعة الإسلام، قال عليٌّ بن أبى طالب رضي الله عنه: "ما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة" وكان البعض يقول: "معاصى بنى أمية أضر عليهم من سيوف أعدائهم".
وقد رأينا كيف تحول النصرُ إلى هزيمةٍ يوم أُحُدٍ؛ بسبب مخالفة الرُّماة لأمر النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران152] والعاقل يحذر هذه الأسباب ويجتنبها في خاصة نفسه وينصح الآخرين بتركها.
إن واقعنا المعاصر لا يبشر بالخير خاصة وأعداؤنا قد شَنَّوا على الأمة حربًا؛ لا هوادة فيها، استخدموا فيها كل صور الأسلحة في جميع الاتجاهات ومن أخطرها الأسلحة الفكرية التي تمهد الطريق للغزو العسكرى، فهو –أي: الغزو الفكرى– من أعنف السهام التي وجهت لهذه الأمة في كل القطاعات في الإذاعة والتليفزيون والمجلات والجرائد والإنترنت وكذا المناهج التعليمية.
"فليس صُدْفَة ولا عن حُسْن نيَّةٍ أن توجَّه طاقات شبابنا وبناتنا إلى الرسم والرقص والغناء، ويكون ذلك محور التوجيه في الصحافة والإذاعة والتلفزيون من حيث لا توجَّه طاقاتهم ولا عبقرياتهم إلى العلم والصناعة والاختراع، إنها خطة استعمارية تنفَّذ من أموال الشعب على أيدي بعض الأغرار من المراهقين والمراهقات من أمتنا!" ([1])
لكن مع هذا كله حسبنا أن نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصف لنا الدواء وهو قوله: «حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ»([2]) إذن لا بد من مراجعة الدين ومراجعة العقيدة ومراجعة السلوك ومراجعة كل ما يقربنا إلى الله، ويُعمر البلاد ويُصلح العباد.
تساءل الليل والأفلاك ما فعلت *** جحافل الحق لما جاءها الخبر؟ ([3])
هل جهزت في حياض النيل ألوية؟ *** هل في العراق ونجد جلجل الغير؟
هل قام مليون مهدي لنصرتها؟ *** هل صامت الناس هل أودى بها الضجر؟
هل أجهشت في بيوت الله عاكفة *** كل القبائل والأحياء والأسر؟
يا أمة الحق إن الجرح متسع *** فهل ترى من نزيف الجرح نعتبر؟
ماذا سوى عودة لله صادقة *** عسى تغير هذي الحال والصور
هذا الواقع الأليم للأمة لم يباغتها بين عشية وضحاها بل تسلل إليه عبر مجموعة معوقات على مدار أكثر من قرنين من الزمان، ولكن الذي يظهر على السطح من هذه المعوقات هو قائد الركب؛ لذا نرى أنه لا بد أن تكون قيادة ركب الحياة "وإدارة دفة المدنيَّة بيد الذين يؤمنون بالروح والمادة، ويكونون أمثلة كاملة في الحياة الدينية والخلقية، وأصحاب عقول سليمة راجحة، وعلوم صحيحة نافعة، فإذا كان فيهم نقص في عقيدتهم أو في تربيتهم عاد ذلك النقص في مدنيتهم، وتضخم وظهر في مظاهر كثيرة وفي أشكال متنوعة، فإذا تغلبت جماعة لا تعبد إلا المادة وما إليها من لذة ومنفعة محسوسة، ولا تؤمن إلا بهذه الحياة، ولا تؤمن بما وراء الحس أثرت طبيعتها ومبادئها وميولها في وضع المدنية وشكلها، وطبعتها بطابعها، وصاغتها في قالبها، فكملت نَوَاحٍ للإنسانية واختلت نَوَاحٍ أُخرى أهمّ منها وعاشت هذه المدنية وازدهرت في الجصِّ والآجر، وفي الورق والقماش، وفي الحديد والرصاص، وأخصبت في ميادين الحروب وساحات القتال، وأوساط المحاكم ومجالس اللهو ومجامع الفجور، وماتت وأجدبت في القلوب والأرواح وفي علاقة المرأة بزوجها، والولد بوالده والوالد بولده، والأخ بأخيه والرجل بصديقه، وأصبحت المدنيَّة كجسم ضخم متورم يملأ العين مهابة ورواء، ويشكو في قلبه آلامًا وأوجاعًا، وفي صحته انحرافًا واضطرابًا.
وإذا تغلبت جماعة تجحد المادة أو تهمل ناحيتها ولا تهتم إلا بالروح وما وراء الحس والطبيعة، وتعادي هذه الحياة وتعاندها، ذبلت زهرة المدنية وهزلت القوى الإنسانية، وبدأ الناس -بتأثير هذه القيادة- يؤثرون الفرار إلى الصحاري والخلوات على المدن، والعزوبة على الحياة الزوجية، ويعذبون الأجسام؛ حتى يضعف سلطانها فتتطهر الروح ويؤثرون الموت على الحياة؛ لينتقلوا من مملكة المادة إلى إقليم الروح، ويستوفوا كمالهم هنالك؛ لأن الكمال في عقيدتهم لا يحصل في العالم المادي، ونتيجة ذلك أن تحتضر الحضارة وتخرب المدن ويختل نظام الحياة..
ولما كان هذا مضادًا للفطرة لا تلبث أن تثور عليه، وتنتقم منه بمادية حيوانية ليس فيها تسامح لروحانية وأخلاق، وهكذا تنتكس الإنسانية وتخلفها البهيمية والسبعية الإنسانية الممسوخة، أو تهجم على هذه الجماعة الراهبة جماعة مادية قوية فتعجز عن المقاومة لضعفها الطبعي، وتستسلم وتخضع لها، أو تسبق هي -بما يعتريها من الصعوبات في معالجة أمور الدنيا- فتمد يد الاستعانة إلى المادية ورجالها وتسند إليهم أمور السياسة وتكتفي هي بالعبادات والتقاليد الدينية، ويحدث فصل بين الدين والسياسة فتضمحل الروحانية والأخلاق ويتقلص ظلها وتفقد سلطانها على المجتمع البشري والحياة العملية؛ حتى تصير شبحًا وخيالًا أو نظرية علمية لا تأثير لها في الحياة وتؤول الحياة مادية محضة، وقلما خلت جماعة من الجماعات التي تولت قيادة بني جنسها من هذا النقص؛ لذلك لم تزل المدنية متأرجحة بين مادية بهيمية وروحانية ورهبانية ولم تزل في اضطراب"([4]).
ولكن عندما تكون قيادة ركب الحياة بأيد الذين يؤمنون بالله ربًّا خالقًا له الأمر والخلق، وأنَّ محمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نبيًا ورسولًا، وأنه لا عقيدة أحسن من عقيدة الإسلام، ولا شريعة قادرة على احتواء الدنيا إلا شريعة الإسلام ولا شعائر أفضل من شعائر الدين القويم، وعندما يكون هؤلاء الرجال قادرين على تحمل المشاق والمتاعب من أجل راحة الإنسانية، وإسعاد الحزين ونصرة المظلوم وردع الظالم وإغناء الفقير، عند ذلك –فحسب- يحل السلام أرجاء المعمورة، وتنزل الخيرات من السموات وتعم الأرض البركات ويسعد المسلمون، ويَسْلم المخالفون.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
-------------------------------
([1]) هكذا علمتنى الحياة، د/ مصطفى السباعى.
([2]) من حديث ابن عمر «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ .....». أخرجه أبو داود 3462، صحيح الجامع 423.
([3]) من قصيدة (دم المصلين في المحراب ينهمر والمستغيثون لا رجع ولا أثر) للدكتور أحمد عثمان التويجري.
([4]) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين أبو الحسن الندوي