موضوع: مفهوم يسر وسماحة الإسلام الإثنين 16 مارس - 0:44:04
لم تعرف البشرية نظاماً ولا ديناً اشتملت مبادئه على منهج مبني على الوسطية والسماحة واليسر كالإسلام . لأن تعاليمه تتفق وطبيعة الإنسان الضعيف { ُيرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً } ، ولذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم المكلفين بالقصد والاعتدال واليسر والمسامحة فقال صلى الله عليه وسلم :" إن الدين يسر ولم يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا و أبشروا ". رواه البخاري . السماحة هي " المعاملة في اعتدال ، فهي وسط بين التضييق والتساهل، وهي راجعة إلى معنى الاعتدال ، والتوسط أو السهولة المحمودة فيما يظن الناس التشديد فيه ؛ ومعنى كونها محمودة أنها لا تُفضي إلى ضرر أو فساد ".( مقاصد الشريعة لابن عاشور.) واليسر هو اللين والسهولة أو رفع الحرج والمشقة عن المكلف بأمر من الأمور لا يُجْهِد النفس ولا يُثقِل الجسم. والمقصود من سماحة الإسلام ويُسره: رحابة مبادئه وسعة شريعته ونزوعه إلى اللين واليسر. وتلبيته لنداء الفطرة واستجابته لمتطلباتها في وسطية واعتدال مع رفع الحرج والمشقة؛ والتسامح مع الغير في المعاملات المختلفة بتيسير الأمور والْمُلاينة فيها . (انظر نضرة النعيم وتفسير القاسمي) . قال تعالى { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } . هذه الآية وإن كانت واردة في شأن الصيام إلاّ أن المراد منها العموم عملاً بعموم اللفظ . قال قتادة رحمه الله: ( أَرِيدوا لأنفسكم الذي أراد الله لكم ) . (انظر تفسير ابن جرير الطبري ). وقال تعالى { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( تضمنت الآية أن جميع ما كلفهم الله به أمراً أو نهياً مطيقون له قادرون عليه،وأنه لم يكلفهم ما لا يطيقون وتأمل قول الله عز وجل { إِلَّا وُسْعَهَا } كيف تحته أنهم في سعة ومنحة من تكاليفه، لا في ضيق وحرج ومشقة؛ فإن الوسع يقتضي ذلك، فاقتضت الآية أن ما كلفهم به مقدور لهم من غير عسر ولا ضيق ولا حرج عليهم ).( فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية. ج14 .) . وقال تعالى { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } . قال ابن كثير: ( أي ما كلفكم ما لا تطيقون وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجاً ومخرجاً. فالصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعاً وفي السفر تقصر إلى اثنين، وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة واحدة، وتُصلَّى رجالاً ركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبلها ، وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها، والقيام فيها يسقط لعذر المرض فيصليها المريض جالساً، فإن لم يستطع فعلى جنبه إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات ). ( تفسير ابن كثير، ج1) والآيات في هذا الباب كثيرة معلومة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قيل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الأديان أحب إلى الله ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " الحنفية السمحة ". أخرجه الإمام أحمد والطبراني والبزار. والبخاري في صحيحه تعليقاً.وقال ابن حجر: وإسناده حسن. قال الشاطبي: (سمي الدين بالحنفية لما فيها من التيسر والسهيل ) (انظر الموافقات، ج1) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الدين يسر ولم يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا و أبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ". رواه البخاري . قال ابن حجر رحمه الله وسمي الدين يسراً مبالغة بالنسبة إلى الأديان قبله؛ لأن الله رفع عن هذه الأمة الإصر الذي كان على من قبلهم، ومن أوضح الأمثلة له أن توبتهم كانت بقتل أنفسهم، وتوبة هذه الأمة بالإقلاع والعزم والندم ) . ( فتح الباري ، ج1) . وعن جابر رضي الله عنه قال كان معاذ رضي الله عنه يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يأتي فيؤم قومه فصلى ليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم أتى قومه فأمهم فافتتح بسورة البقرة فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف فقالوا له : أنافقتَ يا فلان ؟، قال : لا والله ولآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأخبرنه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا أصحاب نواضح ـ وهي الإبل التي يسقى عليها ـ نعمل بالنهار وإن معاذاً صلى معك العشاء ثم أتى فافتتح بسورة البقرة ، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على معاذ فقال : يا معاذ أفتان أنت اقرأ بكذا واقرأ بكذا ". وفي رواية أخرى :" اقرأ : والشمس وضحاها، والضحى، والليل إذا يغشى، وسبح اسم ربك الأعلى ". رواه مسلم . وقالت عائشة رضي الله عنها صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ترخص فيه وتنزه عنه قوم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله ثم قال ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فوالله إني أعلمهم بالله وأشدهم له خشية ". رواه البخاري . وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخاً يهادى بين ابنيه فقال: "ما بال هذا "؟. قالوا: نذر أن يمشي فقال صلى الله عليه وسلم :" إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني ". وأمره أن يركب . رواه البخاري . وفي رواية عند مسلم :" اركب أيها الشيخ فإن الله غني عنك وعن نذرك ". وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح قال :" قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم ". وذلك في رمضان . رواه مسلم . إن رفع الحرج والسهولة والسماحة التي تميز بها هذا الدين نابع من الاعتدال والوسطية التي حث عليها { وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} فلا إفراط ولا تفريط ، والتنطع والتشديد حرج في جانب عسر التكليف ، ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو في التدين، وأنكر على من بالغ من أصحابه في التعبد والتقشف مبالغة تخرجه عن حد الاعتدال . عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " لا تشددوا على أنفسكم، فيشدد عليكم، فإن أقواماً شددوا على أنفسهم، فشدد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من قبلكم بالغلو في الدين ". رواه الإمام أحمد والنسائي . وإن السماحة واليسر في الإسلام فضلاً عن كونه غاية في ذاته ، فإنه وسيلة تعين على تحقيق العبودية لله والانصياع لشرعه ، وحفظ نظام العالم واستدامة صلاحه بصلاح المستخلفين في عقيدتهم وعبادتهم وكافة شؤون حياتهم. وإن المتصفح لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسِيَرِ أصحابه رضي الله عنهم ومن تبعهم من سلفنا الصالح وجد أن نهجهم مبني على السماحة والتيسير؛ فما خُيِّر صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً . رواه الشيخان . وعلى نهجه صلى الله عليه وسلم سار الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم على طريقتهم قولاً وعملاً. قال ابن القيم رحمه الله: ( وكان الصحابة رضوان الله عليهم أقل الأمة تكلفاً؛ اقتداء بنبيهم صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } . وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من كان مستناً فليستن بمن مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتن، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، كانوا أفضل هذه الأمة ، وأبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوا أثرهم وسيرتهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.وقال أنس رضي الله عنه :كنا عند عمر رضي الله عنه ، فسمعته يقول: نهينا عن التكلف. ( إغاثة اللهفان ج1) .