الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
لا تكاد تخلو منطقة في العالم -بما فيه الإسلامي منه- من هذه الشخصية، التي نذرت نفسها لمطاردة شياطين الجن في أبدان الإنس وبيوتهم. وهي من أكثر الشخصيات رواجاً عبر التاريخ لما هو مركوز في فطرة الإنسان من حب التطلع إلى الغيب من جهة، ومن جهة أخرى الغموض الذي يكتنف موضوع الجن، لاسيما والجن مؤثرون في حياتنا شئنا أم أبينا! فالمعركة دائرة بيننا وبين شياطين الجن منهم منذ خلق الله أبانا آدم، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وبرغم كون الشيطان الجني مخلوقاً ضعيفاً إلا أن من أمضى أسلحته الوسوسة. فيلقي في قلوب ضعاف الإيمان الخوف منه ومن جنده وأوليائه، وما يدعم ذلك من عقائد فاسدة. وبالتالي فلا عجب أن ينقدح في حس الناس أن كل ما ألم بهم من مصائب إنما تأتي من وراء ستارة الغيب هذه، وبيد من يرانا ولا نراه!
ولكل قوم طريقتهم في التعامل مع هذا الأمر. فترى لكل أهل بلد أو دين -باستثناء أهل الإسلام من حيث الأصل- كاهناً يأخذ على عاتقه هذه المهمة، يضع غمامة على عينه، وينطلق متخبطاً في غيه يحارب الجن بالجن، ويستخدم الجن ويعبده من دون الله -سبحانه-. فإن الجن لم تُسَخَّر إلا لسليمان -عليه السلام-: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)(صّ:35)، وكل من سوى ذلك فهو غافل مستدرج تستعبده الجن وتستمتع به، وهو أيضا ًيستمتع منها بقدر (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنس وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإنس رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(الأنعام:128) .
وهناك صورة نمطية شائعة لهذا الكاهن، وهي كونه إنساناً غريب المنظر -قذر غالباً- يرتدي أسمالاً بالية، ويسكن الحشوش والمزابل، ويطلق البخور طوال الوقت، ولا يتكلم إلا بالطلاسم وما خفي معناه. وتشيع هذه الصورة عبر العالم شرقه وغربه حتى في بلاد المسلمين. وهي صورة متناسبة تماماً مع ما يتخذه هذا الكاهن أو الساحر من وسائل قذرة نجسة يتوصل بها إلى ما يريده من استخدام الجن، حتى إذا كمل خبث قلبه تنزلت عليه الشياطين بما يريد (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ. تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ)(الشعراء221-223).
وهناك صورة أخرى لا تبتذل نفسها بهذه الطريقة، وإنما تقدم نفسها في ثياب عصرية أنيقة، وربما تستخدم الحاسب المحمول، فيخرج الواحد منهم على شاشات الفضائيات يتحدث عن عوالم ما وراء الطبيعة، والروحانيات العلوية والسفلية، فضلاً عن بعض الأمور اللازمة كالكلام عن خواص المواد والأشكال وعن الأبراج والنجوم، ولا بأس ببعض الشهادات التخصصية من بعض المعاهد الدولية أو الوهمية، تشهد له بأنه نَصَّاب كبير!
وهذه الصورة ينكشف دجلها وخداعها بعد فترة يكون فيها هذا النَّصَّاب قد حل ضيفاً على عدد لا بأس به من القنوات الفضائية، وروَّج لنفسه بحيث يعقد ندوات ومؤتمرات، ويطبع كتباً يأكل بها أموال الناس بالباطل، فترةً ثم تنكشف السحابة، وحينها لا تعزية للمغفلين!
وهناك صورة أخرى لهذه الكهانة أقل ابتذالاً من حيث الظاهر وإن كان باطنها أخبث، وهي ما يقوم به قساوسة جميع الكنائس الشرقية والغربية -على السواء- حيث قسُ الكنيسة كاهنٌ يطرد الشياطين باسم (يسوع والروح القدس)، وبالطبع يأكل أموال الناس بالباطل من خلال النذور والشموع والبخور. وهو بهذه الطريقة لا يختلف عن أي كاهن وثني آخر على الرغم من تمسحه بدين أصله سماوي، فكاهن القبيلة الوثنية يعبد الطوطم القائم وسط بيوت القبيلة، وذاك يعبد الصليب الذي يقف عليه الشيطان ليبقى وثنياً برغم كل شيء.
والخطير أن يتسلل هذا النوع الأخير من الكهانة إلى مجتمعات المسلمين، وبالأخص مجتمعات الملتزمين، فيأتي الكاهن يلبس عمامةً وقميصاً ويطلق لحيته، يتحدث بآيات القرآن وهو يشهد عليه، وبأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو خصمه يوم القيامة، ولا بأس أن يتحدث عن الطب النبوي والحجامة والحبة السوداء فكل ذلك (لزوم الشغل)!
فيروج بضاعته الخبيثة على عامة المسلمين وجهلتهم، مستغلاً ما قد ينزل بهم من أنواع الكروب، وأشدها أمراض القلوب وفساد العقيدة؛ فيزيد الناس رهقاً.
ويساعد هؤلاءِ انتشارُ الخوف المَرَضِيّ من الجن الذي قد يصل إلى خوف التأله -والعياذ بالله-. ويصير الشائع هو التخويف بالجن ومنه، و تغرس هذه الأمراض في الأطفال جيلاً بعد جيل، فلا تخويف إلا بالغول والمارِد، وغرفة العفاريت، و( العَوّ، وأبو رجل مسلوخة)؛ فتنشأ أجيال مهيئة تماماً لما سيلقيه هؤلاء الدجاجلة عليها، لاسيما لو تحدثوا باسم القرآن والسنة.
وللأسف قد يُفتَن بعض ضعاف الالتزام بأمر معالجة المس والصرع هذا، فتجد من يحترف العلاج بالقرآن كمهنة، وربما يرتكن إلى بعض ما يظنه مسوِّغات شرعية، ولا يدري المفتون أنه قد أمسك بطرف حبل يمسك بطرفه الآخر الشيطان نفسه.
وقد يتمادى البعض ليُبَشِّر بدعوة مُفادُها: أن صلاح حال الأمة لن يكون إلا بمحاربة الجن وطردهم إلى جزائر البحور!!
وأكثر من يقع في هذه الوهدة مفتون أسره هواه، فيتخذ من هذا المجال الغامض وسيلة للشهرة والسمعة، وغالباً ما يكون وسيلة للإثراء الحرام.
وتحت غطاء العلاج بالقرآن يتحول أي مريض بمرض عضوي أو نفسي -ولو كان هيناً- إلى مسحور أو ممسوس، ومن لم يصب بشيء فهو مشروع ممسوس أو مسحور، يتوجب عليهم جميعاً إتيان الشيخ الفلاني الخبير في التعامل في هذه الأشياء؛ وذلك طلباً للعلاج أو الوقاية.
ويذهب الناس إلى إنسان تافهٍ فارغ من أمر الدين والدنيا، فأهل الخير والصلاح لا يشتغلون بمثل هذه الأمور. فيأتيه الناس يتمسحون به ويتذللون إليه ليعالج مرضاهم...، والشيخ رجل تقي -في زعمه وظنهم-، لا يأخذ مالاً إنما يفعل ذلك لوجه الله...، وإنما سيبدأ الطريق بالمعالجة ببعض الآيات من القرآن يختارها بنفسه بغير دليل، وغداً سيضيف إليها بعض الأعشاب والأدهان والبخور، والبخور غالي الثمن سيأتي به من مكان بعيد، وسيأخذ تكاليف الشراء والمواصلات فحسب، وبعد ذلك يتحدث عن الجني الذي أسلم على يديه، فلا يأمره إلا بخير ويخبره ببعض أمر الغيب، ثم الجني مسكين طرده الجن الشرير بسبب إسلامه، فلا يجد طعاماً ويحتاج إلى طعام أو إلى مال لشراء الطعام له؛ حيث أنه لن يمد يده ليسرق الناس!
والشيخ قد صار خبيراً، فيأسر من الجن بالعشرات ويحبسهم في المكان الفلاني، وهكذا تتكامل دائرة الكهانة، وليتحول هذا الذي خدع الناس بمظهره الحسن إلى كاهن أو ساحر يدعو إلى عبادة غير الله، ويستحل الأموال والحرمات ويهتك الأعراض. وليتحول العلاج بالقرآن الذي أنزله الله؛ رحمة للعالمين؛ وشفاءً لما في الصدور إلى غطاء لكهانة خبيثة تفسد بها حياة الناس وقلوبهم وعقيدتهم.
وظاهرة المعالجين هذه انتشرت في فترة سابقة، ثم بدأت في الاضمحلال بفضل الله، ولكنها اليوم تجد من عاد لينفخ في نارها على شاشات التلفاز وصفحات الجرائد؛ ليعيدها مرة أخرى إلى واجهة الصورة، ولتكون مطعناً على الإسلام وعلى التمسك بالسنة كما حدث قبل ذلك. فالأمر يحتاج إلى حذر وتحذير من طارد الأرواح هذا، وأن نقول له -وإن تستر بزي الملتزمين-: إنما أنت من إخوان الكهان، وأن نزجره كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن صيادٍ الدجَّال في المدينة: (اخسأ فلن تعدو قدرك) صححه الألباني.
ولا شك أن الخير كله في دوام ذكر الله، والتزام طاعته ومجانبة ما حرم، ومن ابتلي بشيء من الأمراض العضوية أو النفسية؛ فليستشر أهل الخبرة من الأطباء؛ فما من داء إلا وله دواء، ولا بأس بالرقية الشرعية النافعة بإذن الله بضوابطها الشرعية المعروفة، مع ما ثبت نفعه شرعاًً وقدراً كماء زمزم والعسل.
ومن البلاء أن يقع الإنسان أسيراً للتطرف بين الإفراط والتفريط، فنعوذ بالله من مضلات الفتن.
والحمد لله رب العالمين.