رحلات ذو القرنين :
حلقة اليوم رسالة للعالم كله، ورسالة للمسلمين بأنه لا يصلح وضعهم هذا،
ورسالة للقوى في العالم كله أن يتوجهوا للخير والإصلاح، وسنتحدث عن الرحلة
الأولى لذو القرنين. ويقال أنه خرج لليمن متجهاً إلى مغرب الشمس، وتخيل
القوة العسكرية الخارجة معه والبلد تودعهم ومعهم العديدَ من المهندسين،
والأطباء، وعلماء الجغرافيا، واللغات.
ومغرب الشمس بالنسبة لأي إنسان هو مكان غروبها بالنسبة له سواء كان أمام
بحر أو جبل، لكن ذو القرنين وصل إلى آخر الأرض غرباً كما أرشده مستشاريه
من علماء الجغرافيا، "حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا
تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ... " (الكهف86)، والعين الحمئة (هي أرض
زراعية خصبة جداً مليئة بالعيون مع انعكاس ضوء الشمس عليها وعلى الطين
الأسود) فتكون مثل العين الحمئة، وكانوا قوم لديهم حضارة ومال لكن للأسف
ظالمين، ووجد في هذه البلد مظلومون يزرعون الأرض بلا أي حق، وتجد عظماء
البلد وأغنياءها استولوا على كل شيء، وعند دخول ذو القرنين البلد ظنوا
بالتأكيد للوهلة الأولى أنه أتى لأخذ خيراتهم، ولم يصدقوه حين أخبرهم أنه
لم يأتي لهذا السبب، "... قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن
تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً "، وهذا اختبار له بعد
أن أصبح قوة عالمية ماذا سيفعل؟ فوضع ذو القرنين دستور جديد ولم يعاقب
الذي أخطأ من قبل كما ذكرت الآيات: "قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ
نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً
" ، عقوبات رادعة ولا يوجد فوضى ولا محاباة، وقام بتشجيع الوازع الداخلي
في الناس، "وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاء
الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً " وهذا لمن يُصلِحُ
في الأرض والذي سيوضع في مكانه المناسب بدون أي وسائط، وسيكون له جوائز
تشجيعية، وهكذا أقام ذو القرنين العدل في هذه البلد، وهذه كانت القصة
الأولى.
بالتأكيد لم يتركهم ذو القرنين حتى استقروا وثبتوا على الدستور الجديد، ثم
مشى ملايين الكيلومترات الأخرى اتجاه مشرق الشمس، فكم كيلومتراً مشيته أنت
من أجل الإصلاح؟ أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام: " أتدري لما اتخذتك
خليلاً؟ "، فقال: لما يا رب؟، قال: " لأن حبك للعطاء أكثر من حبك للأخذ".
فانظروا لمجهود ذو القرنين! وكيف احتمل من معه! غير أن حبه للعطاء غير
عادي! اجعل أولادك يحبون العطاء. "حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ
وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا
سِتْراً "، مثل بعض المناطق الفقيرة في أفريقيا ليس بها شجر أو زرع أو
ماء، فهم يعيشون مأساة وكارثة طبيعية، بدون حتى ملابس تسترهم من الشمس،
ولديهم جفاف وبدون ماء، فمشكلتهم أنهم كانوا مستسلمين لهذه الكارثة،
ويَدََعونَ أن هذا قَدرُهُم! ونسوا أن شق الآبار من قدَّر الله، وحفر
الأنهار من قدر الله، وزرع الأرض من قدر الله، فلما لا تُصلحوا قَدَر الله
بقَدَر الله!
وهذا كلام لنا، فمشكلة القوم الأولين الظلم أما هؤلاء فمشكلتهم
التحجج بالقدر. ألسنا نكرر نفس الكلام دائماً أن هذا قدرنا! وأننا في
انتظار المهدي المنتظر لينقذنا! الله عز وجل يرينا في كل رحلة نوعُ من
الأُمم، ونوعُ من الإصلاح، وذو القرنين ليس نمطي، فالرحلة الأولى احتاجت
للعدل والثانية للإصلاح التنموي، حتى وصل لأفضل إنجاز استفدنا منه حتى
اليوم وهو بناء السد الذي منع يأجوج ومأجوج من الدخول علينا حتى اليوم.
انطلق ذو القرنين وجنده حتى وصلوا لأرض فسيحة بين جبلين، في شمال الأرض من
الممكن جداً أن تكون ناحية الصين، أو جورجيا، أو الاتحاد السوفيتي. لا
أعلم بالتحديد. "حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن
دُونِهِمَا قَوْماً لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً " وجد هناك
جنسيات جديدة ولا يفقهون قولاً لا تعني أنهم لا يستطيعون الكلام، بل أنه
حينما دخل عليهم كانوا في مصيبة، أطفال مقتلين، زرع محترق، خيرات منهوبة،
"قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ
فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ سَدّاً "، واضح أنهم يعرفونه جيداً، وأن شهرته في ذلك الوقت
شهرة عالمية، وأنهم قوم مؤمنين، ويأجوج ومأجوج قبيلتين وظيفتهم أن يخرجوا
على هؤلاء القوم لأخذ خيراتهم وذبحهم...وذلك منتهى الفساد، ثم يعودوا حيث
أتوا وذلك يحدث مرة كل عام، حتى يبدأ القوم في الزراعة مرة أخرى فيخرج
يأجوج ومأجوج من بين السدين لأخذ خيراتهم ثم يعودوا، ومن أسمائهم تشعر
بالغلظة التي بهم، فيأجوج: من تأججت النار، ومأجوج: من ماجت الماء مثل
الطوفان الذي يُغرق كل شيء، فهم قبيلتين مفسدتين في الأرض.
فقالوا لذو القرنين: "... فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن
تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً "، فهم أغنياء لذلك عرضوا المال
على ذي القرنين ليجعل لهم سداً يحميهم، فسدُ بين جبلين سيكلف الكثير من
المال، وهم أيضاً يعلمون أن الحل هو السد، بل ولديهم موارد طبيعية ألم يقل
لهم: "آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ... "، وأيدي عاملة، وقوى بشرية ألم يقل
لهم: "... قَالَ انفُخُوا ... قَالَ آتُونِي ... "، فماذا ينقص هؤلاء
القوم؟ أرضهم مليئة بالبترول، لديهم شباب، لديهم فكر، لديهم مال، وتنقصهم
الإرادة، القصة الأولى قصة عدل، والثانية قصة يأس، والثالثة قصة إرادة،
فهم لا يريدون الحركة رغم أنهم في كل يوم يموت منهم ، بل يرغبون في الجلوس
كما هم حتى يأتيهم المُنقذ.
لعل رمضان هذا يكون بداية لمائتي عام قادمين، ولن نخجل أن نقول كلمة نهضة،
بالرغم من أننا سنموت لكن يكفينا أن نضع البذور، سأطرح سؤالاً: من نحن من
هؤلاء؟ أُمة ذو القرنين؟ أم الأُمة المليئة بالظلم؟ أم الأُمة المليئة
باليأس؟ أم يأجوج ومأجوج؟ أم الأُمة التي لديها كل شيء سوى الإرادة؟
لسنا كفاراً، ولسنا يأجوج ومأجوج،- رغم أن هناك من يقول عنا هكذا ! ولسنا
مملوئين بالظلم لهذه الدرجة الخطيرة، أنا أرى أننا يغلُب علينا الحالة
الخامسة وهي الأُمة التي لديها كل شيء سوى الإرادة، رغم أن فينا من قوم ذو
القرنين- لكي لا أكون يائساً.
وذو القرنين لم يستجب لأخذ مال على بناء السد، بل قال: "... فَأَعِينُونِي
بِقُوَّةٍ ... " ، لأنه لو أبعد عنهم يأجوج ومأجوج بمفرده بدون مساعدتهم
اليوم سيأتيهم مئات مثلهم، ويقولون أن الشعوب نوعان: شعوب غير قابلة
للاستعمار، وشعوب قابلة للاستعمار فإذا تركها المستعمر تبحث عن مستعمر
يستعمرها، "... فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
رَدْماً "، وبدأ يجمع الحديد من ألواح متساوية، "آتُونِي زُبَرَ
الْحَدِيدِ ... "، وآلاف يعملون لنقله كمشروع قومي لهذه البلد، وبنى ما هو
أعظم من الهرم، ورفعوا الحديد وضبطوه في مكانه فلديه قوى علمية غير عادية:
"... حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى
إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً "، ثم
أمرهم بتسخين الحديد فهو يعرف خواصه جيداً، حتى إذا أصبح محمراً، أمرهم أن
يأتوه به وهو الذي سيفرغ عليه النحاس المذاب، فبدأ النحاس المذاب ينزل على
الحديد الملتهب فيتخلله حتى يَجمُد ويصبح أملس لا أحد يستطيع صعوده.
والجميل أنه قام بثلاثة أشياء، وهم قاموا بثلاثة أشياء: "آتُونِي زُبَرَ
الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا
حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً "،
وهذا هو العمل الجماعي لمن لا يعرف كيف يعمل جماعياً، وهناك نكتة ظريفة
ولكنها مؤلمة: نزل فريق ياباني ليسابق فريق عربي في السباحة ففاز الياباني
بتفوق، فوجدوا أن الياباني أحدهم مدير والباقون يقلدونه أما العربي ف9
مديرين وواحدُ يقلدهم! فأصلحوا الوضع وأعادوا ففاز الياباني بمراحل،
فوجدوا أن الياباني أحدهم مدير والباقي يقلدونه، أما العربي فواحد مدير و3
مديرين إدارات و4 مديرين أقسام وواحد يقلد، فقرروا اتخاذ قرار صارم بإعداد
الشخص الذي يُقلد.
وتخيلوا أن معادلات ذو القرنين مسجلة في كتاب الله، وهي معادلات كيماوية
وعلمية، ونحن نتعبد لله ونُصلي في رمضان ونتهجد بالقرآن، ونريد دخول
الجنة. أتى يأجوج ومأجوج بعد بناء السد بصياحهم وقوتهم، وذو القرنين منتظر
مع جيشه في الناحية الأخرى، وهذا معناه أنه بقي مع القوم قرابة السنة،
ولماذا لم يحارب يأجوج ومأجوج؟ لأنني لو أستطيع أن أحمي بدون حرب فهذا
أفضل، فليست دائماً البطولة أن تختار الحرب، وإذا كاد أن يصبح بطلاً
بالحرب مثل الإسكندر الأكبر فلن يقدر على فعل ذلك، فالإسكندر لديه حب
المغامرة مثل ذو القرنين.
وعندما جاء يأجوج ومأجوج لم يتمكنوا من صعود السد ولا نقره، "فَمَا
اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً "، ثم قال
خطبته الأخيرة ونسب الفضل لله ولم يرى إنجازه ولهذا إنجازه مستمر: "قَالَ
هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء
وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً " فلما قال قارون: "... إِنَّمَا أُوتِيتُهُ
عَلَى عِلْمٍ عِندِي ... " (القصص78) خسف الله به الأرض، ويقول النبي _صلى
الله عليه وسلم_ أنه كل يوم يأجوج ومأجوج يحاولون أن يحفروا في السد ولا
يقدرون، حتى إذا جاء يوم القيامة فُتح السد وخرج يأجوج ومأجوج ليهلكوا
البشرية كما في الآيات: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ
وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } (الأنبياء 96) ، وأنا لا أعرف
مكانهم، ولا أين هم من الأرض، ولا لما لم تراهم الأقمار الصناعية؟ لكني
أُصدق القرآن، وسيكون فتح السد من علامات يوم القيامة.
خاتمة:
خرج _النبي صلى الله عليه وسلم_ من بيته يوماً مُحمَرَ الوجه، قالوا: ماذا
يا رسول الله ؟، قال: " ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب، فُتِحَ اليوم من
يأجوج ومأجوج مثل هذا " وهذا جزء صغير لمدة طويلة! فانظر كيف حمانا سد ذو
القرنين طوال هذه المدة الكبيرة! فهو صاحب فضل علينا، فأماننا وأمان
أولادنا وأمانكم بسببه، ففضل ذو القرنين على البشرية جمعاء، نموذج جميل!
لم نره من قبل، وهو ليس نبي أو مَلَك بل بشر مثلنا! أحببته وفهمت لما
يأمرنا الله تعالى بقراءة سورة الكهف كل جمعة.
فانظروا لهذه النماذج واعلموا أي أمة أنتم؟! لتتوجهوا وتصروا على النهوض
الجمعة التي تليها ولو مني وهو في طريق النهضة، ومات ذو القرنين، فتخيل
جنازته! هل كانت ستمشي بها كل البشرية من مسلمين، وغير مسلمين، ومؤمنين،
وغير مؤمنين؟ ولم نراه حارب في أي مرة، فليست الحرب دائماً هي البديل
الصحيح، ولم نسمعه أصر على دخول قوم في الإسلام ، فالإصلاح والخير للبشر
كلهم، ولهذا يوسف عليه السلام أصلح مصر وهو في السجن، وأنا أقترح أن
نُعَلِم أبنائنا قصة ذو القرنين في سن السابعة إلى الثامنة، فلربما يخرج
من هذا الجيل مثله، فأنا أنصح بشدة بقصة ذو القرنين وقيمه.