لنتعلم.. كيف نتكلم؟
أسامة علي متولي
ـ الصمتَ الصمتَ، فإنه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، وكلُّ لفظٍ يخرج من فمك ستجده في كتابك مسجّلاً عليك {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
ـ تعلّمْ قولَ: لا أعلم؛ فلا تتكلمْ فيما لا علمَ لك به. يقول ـ سبحانه ـ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْـئُـولاً} [الإسراء: 36]. ومن هنا يلزم فقه بعض القواعد المهمة في هذا المجال ومنها:
+
أولاً: قل خيرًا أو اصمت:
ليس عيبـاً إذا ســئلت عــن شيء لا تعلمُه أن تقـولَ لا أدري. يقول ابن جماعة: «واعلم أن قــولَ المســؤولِ: لا أدري، لا يضعُ من قدرِه كما يظنُّ بعضُ الجهلة بل يرفعُه؛ لأنه دليلٌ على عظمِ محلِّه، وقوة دينه، وتقوى ربه، وطهارة قلبه، وكمال رفعتِه، وحسن تثبتِه».
◄ غلِّب الاستماعَ على القول؛ فلك أذنان ولسانٌ واحد، ومع ذلك لا تستهنْ بقدرِ الكلام؛ فهو بداية العمل، ومن أهم وسائلِ الدعوةِ.
◄ أحسِن الإنصاتَ للآخر، أعطِه الفرصةَ لإبداء رأيه وإفراغِ ما في نفسه، كما كان من حديث النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- مع عتبةَ بنِ ربيعة، قال -صلى الله عليه وسلم- له: «قل يا أبا الوليد، أسمَع» ولما انتهى عتبةُ من حديثه، قال -صلى الله عليه وسلم-: «قد فرغت يا أبا الوليد؟» قال: نعم! قال: «فاسمع مني........».
◄ وإذا تكلمتَ فلا تتكلمْ إلا بالخير، ادعُ إلى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، اتلُ آياتِ القرآن، سبِّح الربَّ الرحمن، أكثرْ من الدعاء {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77]، «لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله عزّ وجلّ»(1).
◄ اذكر الله في حديثك مع الناس، ابدأ باسم الله، ادعُ في ثنايا كلامك لمن يستمع لك: «بارك الله فيك.. جزاك الله خيراً.. حفظك الله....».
◄ لا تلغُ في كلامك، لا تتحدث بلا فائدة {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3]، {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]، يقول ابنُ مسعود: «والذي لا إله غيرُه ما على ظهر الأرض شيءٌ أحوجُ إلى طول سجنٍ من لسان»(2).
◄ اجعل لكلامِك معنًى عميقاً، لا داعي للسطحيةِ غيرِ المجدية، كما في قول أحدهم:
الليلُ ليلٌ والنهارُ نهارُ والأرضُ فيها الماءُ والأشجارُ
◄ لا تشارك في المنتديات التافهة، والحوارات الجوفاء، والجدال العقيم؛ فوقتُك الثمينُ لا يسمحُ لك بذلك، ثم إن الجدالَ أحيانًا لا يأتي بخير. يقول ابن عباس: «ولا تمارِ حليماً ولا سفيهاً؛ فإن الحليمَ يقليك، وإن السفيهَ يُؤذيك»(1)، إلا إذا كانت هناك حاجةٌ وفائدةٌ له. يقول ـ سبحانه ـ: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46].
◄ احرص على صحة كلامك:
- فلا تقل: مصادفة، ولكن قل: قدر الله.
- لا تقل: لولا الله وفلان، وقل: لولا الله ثم فلان.
- لا تقل: لا حول الله، وقل: لا حول ولا قوة إلا بالله.
ـ وكن دقيقاً في كلامك، ولتكن معلوماتُك صحيحةً واقعياً وتاريخياً.
- ولا تكن ممن يشارك في حواراتٍ عابثة مع ملحدين أو جاهلين أو فسقةٍ منحرفين. فتكون ممن:
- يغضب فيتلفظ بكلماتٍ لا ينظرُ عقباها.
جراحاتُ الطعان لها التئام ولا يلتام ما جرح اللسانُ
قال -صلى الله عليه وسلم-: «ليس المؤمــن بالطعّـان ولا اللعّان ولا الفاحـش ولا البذيء»(2).
- وقد يتعصّب لرأيه، فيتحدّث عن مُناظرِه متكبراً مغروراً بنفسه: «إنه جاهل.. سخيف.. متسرِّع.. فاسد النيّة.. عميل.. خبيث.. مبتدع.. فاسق.. ملعون.. مُلحِد.. كافر».
وربما يعمّمُ في أحكامه تلك، لتكون المصيبةُ أعظم، فيسبُّ أسرةً.. عائلةً.. قبيلةً.. جماعةً.. بلداً.. شعباً.. جنساً..
- يرتكبُ كبيرةً بغِيبةِ إنسان، يأكلُ لحم أخيه ميتاً، مع أن ربَّه نهاه {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات: 12]، ويتتبع عوراتِ المسلمين ليفضحَه ربه.
يمشي بين الناسِِ بالنميمة.. فيوقع بينَهم ويُفرِّقُ بينَ قلوبِهم، ليُعذَّبَ في قبرِه قبلَ عذابِ يومِ الدين، ولتقفَ كلُّ تلك الجُموعِ الغفيرةِ التي سبَّها، واغتابَها، ومشى بينها بالنميمة لتأخذَ منه حقَّها من حسناتِه، أو تضع عليه من سيئاتِها، فما مصيرُ هذا التعيس؟
- لا يكتفي بأفٍّ لوالديه، بل إنه الزجر والنهر لهما، ليخسر دنياه وآخرته، مع أن الله ـ سبحانه ـ أمره {فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} [الإسراء: 23].
بل نُهينا أن نكون مجرّد سببٍ في سبِّهما، يقول -صلى الله عليه وسلم-: «إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه» قيل: يا رسول الله! كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: «يسبُّ أبا الرجل فيسبّ أباه، ويسبّ أمه فيسب أمه»(3).
يَكتب شعراً أو نثرا، يتغزّل بألفاظٍ فاحشةٍ بذيئةٍ فاضحةٍ مخجلة، مقتدياً بامرئ القيس حاملِ لواءِ أمثالِه من الشعراء في النار، يدعو إلى الفحشاء، يثيرُ الغرائزَ المُحرَّمة.
- يهجو مسلماً، ويُقذِعُ في هجائه، كما كان الحطيئة وضابئ ابن الحارث، لقد سجن عمرُ الحطيئةَ لهجائه الزِّبرقان بن بدر:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
ـ يمدح فيبالغ كاذباً أو مشركاً:
لقد نهَى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- مادحيه: «لا تُطروني كما أطْرَتِ النصارى ابنَ مريم؛ فإنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبد الله ورسولُه»(4).
وأمرنا -صلى الله عليه وسلم- أن نحثوَ في وجوه المدّاحين التراب [في حديث لأبي هريرة في الترمذي].
بل إن المبالغة في المدح تقلِبُه ذمّاً، وقد فعل ذلك المتنبي عامداً في مدائحه لكافور الذي لم يحقق أحلامه، يقول:
عدوُّك مذمومٌ بكلِّ لسانِ ولو كان من أعدائك القمرانِ
ويقول:
وللهِ سرٌّ في علاك وإنما كلام العدا ضربٌ من الهذيانِ
+
ثانياً: الوضوح وعدم التكَلّف:
◄ لا تتكلمْ بسـرعـةٍ، تــسردُ الحــديث سرداً؛ فما كان رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- يسردُ الحديث سرداً، وإنما يحدّثُ الحديثَ لو عدّه العادُّ لأحصاه.
ولكنَّ أحدَنا يتحدّث بسرعةِ سبعين كلمةً في الدقيقة، يستأثرُ بالحديث، يدمنُ الكلامَ ويعشقُه، يخرج من موضوع إلى آخر، وأنت لا تدري: ماذا يقول، ومتى سينتهي؟
◄ تكلم بهدوءٍ وأريحيّة على سجيّتك، لا تتكلّف، لا تتشدق؛ فلقد كره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الثرثارين والمتشدقين والمتفيهقين. يتكلم بكيفيةٍ تقول للناس: «انظروا كم أنا بليغٌ فصيح، أملك عنان الكلمة، وأعلم ما لا تعلمون».
قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله ـ عز وجلّ ـ يبغضُ البليغَ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها»(5).
وليكن كلامُك بلسانِ قومِك واضحاً مفهوماً، كما كان رسلُ الله الكرام {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}
[إبراهيم: 4].
تقول عائشةُ ـ رضي الله عنها ـ: «كان كلامُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلاماً فاصلاً يفهمه كلُّ من يسمعه»(1).
◄ اجعلْ كلامَك مبسَّطاً مألوفاً.. وابتعد عن الكلام الغريب المعقَّد، الذي عفا عليه الزمان ومات، تريد به أن تُظهر علمَك باللغة، وتتفاخرَ بنفسِك.
◄ لا تكنْ كذلك الأعرابي يبحثُ عن فرسه ومهره: (هل رأيتَ الخيفانةَ القبَّاء يتبعها الحاسنُ المسرهَف؟).
+
ثالثاً: الكلام المناسب:
◄ اختر الكلام المناسب للمقام وللمخاطَب، فأنت تكلم الأميرَ بغير ما تكلم به صديقك.
◄ فكيف ستكلّم ربّ العالمين؟
تكلمه ـ جلّ شأنه ـ بكلِّ تذلُّلٍ وخضوع، مُظهِراً بين يديه الضعفَ والفقرَ والحاجة.
هذا نبيُّ الله أيوبُ ـ عليه السلام ـ: {وَأَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83].
وموسى ـ عليه السلام ـ: {رَبِّ إنِّي لِـمَا أَنزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24].
وزكريا ـ عليه السلام ـ: {قَالَ رَبِّ إنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4].
ومحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «اللهمَّ إني أشكو إليك ضعف قوتي وهواني على الناس، يا أرحمَ الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي..».
وشاعرنا يناجي ربه:
أنا العبدُ الذي أضحى حزيناً على زلاته قلقاً كئيبا
أنا العبدُ الغريقُ بلُجِّ بحرٍ أَصيحُ لربما ألقى مجيبا
أنا المضطرُّ أرجو منك عفواً ومن يرجو رضاك فلن يخيبا
ـ وعندما تُكلِّمُ الخليفةَ أو الأميرَ أو القائد، فأنت دقيقٌ في كلامك، حريصٌ على انتقاء عباراتِك.
◄ أما عامة الناس فأنت تكلمهم على قدرهم، لا تعطيهم من العلم إلا ما يناسبهم.
قال -صلى الله عليه وسلم-: «كفى بالمرء إثماً أن يحدِّث بكل ما سمع»(2).
وقال علي ـ رضي الله عنه ـ: «حدّثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يُكَذَّب اللهُ ورسولُه؟»(3).
وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «ما أنت بمحدّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة»(4).
ومن الحِكَم: (لا تعطوا الحكمة لغيـر أهلهــا فتظلمــوها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم).
◄ وانتقاء الكلمةِ المناسبةِ يُظهِر عقلَك وثقافتك؛ فأنت تعلم أن الكلمة العربية لا تساوي مترادفاتِها، فـ «جلس» لا تؤدي معنى «قعد».. تقول للنائم: اجلس، وتقول للواقف: اقعد.
وكذلك «قام» ليست كـ «وقف».
◄ سمع ابن هَرمة رجلاً ينشد قصيدةً له:
بالله ربِّك إن دخلت فقل لها هذا ابن هَرمةَ قائماً بالبابِ
فقال ابن هرمة: لم أقل «قائماً» وإنما قلتُ «واقفاً».. فما الفرق؟
إن القيام يقتضي الملازمة، وكأنما هو حاجبٌ على باب بيتِها، مقيم عليه ليلاً ونهاراً ينتظر الإذن بالدخول، بما يوحي بالمذلة والضّعة والصّغار، أما الوقوف فغير ذلك.
- انظر إلى قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: «طلبُ العلم فريضةٌ على كلِّ مسلم»(5)؛ فما رأيك لو وضعت كلمة «تحصيل» مكان كلمة «يطلب»؟
لا شكّ أنه سيأثم الكثير، فطلب العلم يستطيعه كل إنسان، أما تحصيله واستيعابه فهذه نتيجة للطلب، ولا يستطيعها كلُّ إنسان، فما أرحمَ دينَنا!
- وهذا حوارُ رجلٍ مع هشام القرطبيّ:
الرجل (يسأل هشاماً عن عمره):
ـ كم تعدّ؟
هشام: من واحدٍ إلى ألفِ ألفٍ وأكثر.
ـ لم أُرِدْ هذا، كم تعدّ من السنّ؟
ـ اثنين وثلاثين: ستة عشر سناً من أعلى، وستةَ عشر من أسفل.
ـ لم أُرِد هذا، كم لك من السنين؟
ـ والله ليس لي منها شيء، والسنون كلها لله.
ـ يا هذا، ما سِنُّك؟
ـ عَظْم.
ـ ابن كم أنت؟
ـ ابن اثنين: رجل وامرأة.
ـ كم أتى عليك؟
ـ لو أتى عليّ شيء لقتلني.
ـ فكيف أقول؟
ـ تقول: كم مضى من عمرِك؟
- بل إن حروف الجرّ لا تؤدِّي معاني بعضِها بنفس الدقة.
فهذا قوله ـ سبحانه ـ: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ} [القصص: 4] فحرف الجرّ المناسب للعلوّ هو «على»، ولكن عندما تسمع كلمة «علا» يتطاولُ عنقُك إلى السماء، تبحث عن هذا العالي، وإذا بك تفاجأ بأنه مهما علا وعلا فهو في الأرض.
وقوله ـ سبحانه ـ: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] أي: على جذوع النخل، ولكن «في» تدلّ في حقيقتها على أنهم داخل جذوع النخل، وكأنهم من شدة إيثاقهم وتعذيبهم أصبحوا داخل جذوع النخل.
وتأمّل رحمةَ الله ـ سبحانه ـ بأمّةِ محمّد -صلى الله عليه وسلم- في قوله ـ جلَّ شأنُه ـ: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4 - 5] ولو قال: في، بدل: عن؛ لهلَكْنا، لماذا؟
◄ وينبغي مراعاةُ مناسبةِ حديثِكَ للزمن المتاحِ لك؛ فلا تفتح مواضيعَ ربّما يطولُ لها الوقت.
◄ ولا مانعَ من إعداد النقاطِ الرئيسةِ لحديثِك ولو كان معَ فرد.
◄ ولو ارتجلتَ الحديثَ فكُن حاضرَ الذهن، دقيقاً في كلامِك، وبخاصّةٍ لو كنتَ رجلاً مسؤولاً؛ إذ تُحسَبُ كلُّ كلمةٍ لكَ أو عليك.
◄ لاحظ تعبيراتِ مستمِعِك؛ فإن لاحظتَ تجاوُبَه معكَ، وفهمَهُ لحديثِك، وإلا فأنْهِ حديثَكَ النهايةَ المناسبة.
◄ كما تراعي حالةَ المستمعِ نفسِه؛ فإن كان مريضاً؛ فهل يجوزُ أنْ تحكيَ له قصةَ مريضٍ بنفسِ مرضِه قد تُوُفِّي بسببِ هذا المرض؟!
◄ وإنْ أردت حديثاً قد يطولُ مع أحد أصدقائِك في الهاتف، فاسألْه سؤالاً صريحاً: هل عندك الاستعداد للحديث الآن؟ أم أنّ هناك وقتاً أنسبَ لك؟ متى؟ فأنتَ لا تراهُ، ولا تعلمُ ما ظروفُهُ الآن.
+
رابعاً: الترتيب:
◄ ابدأ كلامك بالأهمِّ ثــم المهــم؛ فإذا أردت أن تدعـو رجـلاً لا يصلي، ويلبس ثوباً طويلاً، ويدخن، فبأي شيء ستبدأ؟
وإذا أرادت امرأةٌ أن تدعوَ كافرةً للحجاب، فكيف ستدعوها؟
◄ احرص على ترتيبِ كلماتك حتى في الجملة الواحدة.
◄ انظر إلى قوله ـ تعالى ـ: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95].
هناك فرقٌ هائل بين ذلك وبين قولك: أأنتم تعبدون ما تنحتون؟
في الآيةِ الكريمة إنكارٌ لعبادة الأصنام، سواء أكانت من أولئك القوم أم من غيرهم. أما القول الآخر فهو إنكارٌ أن يكونوا هم عبدة الأصنام، أما غيرهم فلا مانع.
ما الفرقُ بين قولك لابنك منكراً: أتكذب؟ وبين قولك له: أأنت تكذب؟
◄ وإذا كان المجال فيه بشرى وسعادة؛ فابدأ البشرى.
فإذا أردت أن تخبر طالباً بنجاحه؛ فكيف سترتب كلامك؟
(يا زيد، لقد ذهبتُ إلى مدرستك، وكنتُ أعرف أحد العاملين بها، وسألته عن نتيجتك، وبعد طول بحث وو........ نجحت).
أم تبدأ بتبشيره: (نجحت يا زيد......) ثم تقص القصة؟
◄ تأمل قوله ـ تعالى ـ: {قَدْ أَفْلَحَ الْـمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1].
يقول الشاعر:
سعدت بغرة وجهك الأيام وتزينت ببقائك الأعوام
ـ وتقديم ما حقّه التأخير قد يفيدُ معاني جديدة، كتقديم الجارّ والمجرور أو الظرف للاختصاص.
مثل: (الملك لله) لا تدل على نفس معنى (لله الملك).
الجملة الثانية تدل على أن الملك لله وحده لا شريك له.
ما الفرق بين قولك: (هذه الهدية لخالد) وقولك: (لخالد هذه الهدية)؟
◄ كما يحسُن أحياناً أن تبدأ بما يُشوِّق لتجعل مستمعَك متلهّفاً حريصاً على تكملة الكلام والانتباه له.
◄ يقول -صلى الله عليه وسلم-: «ثلاثُ دعواتٍ مستجابات لا شكَّ فيهنّ: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد»(1).
تخيّل لو كان الترتيبُ طبيعيًّا هكذا: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد.. ثلاث دعوات مستجابات.
هل تجدُ فيها ذلك الجمالَ والرونق، وتلك الجاذبيةَ والبهاء؟
- تأمل: «منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال».. «عينان لا تمسهما النار: عينٌ بكت من خشية الله، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله»(2).
- وأنت تعلن نتيجة إحدى المسابقات التي تقودُها، أتقول: (ثلاثة فازوا: زيد.. وخالد.. وعمرو) أم تقول: (زيد وخالد وعمرو: ثلاثة فازوا)؟
+
خامساً: الذوق:
◄ باسطْ جلساءك عند الحديث، تواضعْ لهم، لا تكلمْهم من علٍ، اسأل عن أحوالِ مَنْ تكلِّمُه، فإن معظمَ الناس لا يهتمون بما لديك من معرفة إلى أن يعرفوا قدر ما لديك من اهتمام بهم.
◄ اجعل في ثنايا كلامك، بعضَ ألفاظ الاحترام والتقدير لمحدثِك، كبيراً كان أم صغيرا، مثل: (من فضلك.. لو سمحت.. عن إذنك.. يا أُخيّ.. يا عمي.. يا شيخي.. يا مولانا.. يا بُنيّ....) وهذا هو الذوق، وتلك هي الكياسة.
◄ وأثناء حديثِك حافظْ على ابتسامتك اللطيفة المناسبة، يقول أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ: «ما رأيتُ أو سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يحدّث حديثاً إلا تبسّم»(1).
إنّ للابتسامةِ وتعبيراتِ الوجه أثرَها في المستمع، فهي تدلُّ على كرمِ الأخلاق، وحسنِ السجيّة، وطيبِ الطويّة.
يقول زهير مادحاً:
تراهُ إذا ما جئته متهللاً كأنّك تعطيه الذي أنت سائلُهْ
◄ راعِ نبرةَ صوتِك أثناء حديثِك، ومدى مناسبتِها للموضوع وللمخاطَب، فلها أثرٌ عظيمٌ في معنى الكلام.
فإذا قلتَ: ما هذا؟.. أو نَعم.. أو من أنت؟.. بصوتٍ عالٍ.. أو بصوتٍ طبيعيٍّ.. أو بنبرةٍ ساخرة.. أو بلهجةٍ متكبرة.. (جرّب الآن، وانظر الفرق).
ولكن، قد نحتاج إلى الصوت العالي في بعض الأحوال، ومنها:
الإهلال بالحج والعمرة.. الأذان.. التلبية في الحج.. التأمين في الصلاة الجهرية.. الخطبة وموعظة الناس.
عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال: «كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرّت عيناه، وعلا صوتُه، واشتدّ غضبُه، حتى كأنه منذرُ جيشٍ يقول صبّحكم ومسّاكم»(2).
◄ وراعِ كذلك إشاراتِك ونظراتِك، فالإشارة تدلّ على الاحترام أو الاحتقار، وطريقة النظر تتكلم، وحركة الحواجب تنطق، وتقطيبة الجبين تقول، أمَّا لوي العنق وتصعير الخدّ فهو الكبْرُ عينه. يقول ـ سبحانه ـ: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة: 1]، والهمزة: هو الذي يعيب الناس، ويطعن عليهم بالإشارة والفعل.
◄ إياك والكلماتِ الفاضحةَ غيرَ المهذّبة؛ فهذه فحشاءُ لا يحب المؤمن إشاعتَها، وفي الكناياتِ مخرج، يغلِّف الكلامَ بغلافِ الأدبِ والحشمةِ والجمال.
انظر إلى تعبير قرآننا العظيمِ عن الجماع: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187]. {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187]. {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } [البقرة: 223]. {فَإذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222]. {وَإن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237].
- ومن كناياتِ العرب:
لسانه طويل (لبذيء اللسان). نشر غسيله (لمن فضح نفسه). نؤوم الضحى (للمُنعَّمَة المترَفة). أوانيه نظيفة (للبخيل). قلبه في جناحي طائر (للخائف). نقية الثوب ـ (للعفيفة).
ذهبت إحداهن تشكو فقرها للخليفة، فقالت: أشكو إليك قلّة الجرذان في بيتي.
◄ لا تكثر من قول: «أنا».. «عندي».. «في رأيي» حذرَ التكبُّر، كما حدث من إبليس اللعين: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ} [الأعراف: 12]، وفرعونَ الهالك: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24]. وقارونَ الخاسر: {قَالَ إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص: 78].
◄ إذا نصحتَ فلا توجِّه الاتهام لمن تنصحه مباشرةً، ولكن هناك طرق عديدة لطيفة، منها: (ما بال أقوامٍ يفعلون كذا وكذا؟.. هناك مشكلة عند أحدهم أريد أن أستشيرك في حلّها.. قرأت هذا الكتاب الجميل، وهو لك، اقرأه وقل لي رأيك فيه.. استمع إلى هذا الشريط، سيعجبك.. نريد أن نقوم ببحث في موضوع كذا، فعليه جوائز قيمة).
لا تحاصر من تستجوبه، فإذا أخطأ أحدٌ، وعرفتَ خطأه، وأخذتَ تعاتبه؛ فإنه سيحاول أن يبرّر لك فعلته، وهو نادمٌ عازمٌ على عدم العودة لمثله، فاتركْ له فرصةً للهرب، واستجِب لتبريره، واعفُ واصفحْ يغفرْ لك ربُّك.
.