كثيرةٌ هي الأمور المُنتهك حُرمتها، فعلى سبيل المثال لا الحصر: هناك انتهاك لحُرمة الأمانة والصِّدق والوفاء، ومن بين العديد من هذه المُنتهكات قررتُ اختيار أكثرها تجاهلاً - كما أرى - وهذا التجاهُل ربما حصل بشكلٍ مقصودٍ؛ بسبب صِغَر حجْم الأمر، ومِن ثَمَّ فكان للتهاون دورٌ كبيرٌ في تركه، أو بسبب الجهل بالأمر، وقلَّة الإلمام بالمعرفة.
أحاطنا الباري بطريقة أو بأخرى بالمعرفة بفضْل الإخلاص، وثماره التي لا تُحصى ابتداء من تَبْرِئة ذمَّة المرء أمام الله، وصولاً إلى انتشار عبير الخير على المجتمع؛ ولكنِّي لستُ بصَدد الحديثِ عن ذاك الإخلاص المتعارَف عليه، الإخلاص في المعاملات البشرية وفي العمل... إلخ، ولكنه الإخلاص العقلي.
وإذا ما أراد أحدُنا الوُلُوج في هذا العالَم، فسيغرق المرءُ في فيضان التساؤُلات العديدة الصادرة منه، وإذا قُمنا بالتقاط إحدى تلك التساؤلات، وأكثرها تداوُلاً، ألا وهو:
كيف يكون المرء مُخلصًا لعقله؟لا توجد إجابة مُحَدَّدة لتساؤل كهذا، فإستراتيجيَّات الإخلاص متعدِّدة، وعلى حسب همَّة المرء تكون الوسيلة، فكما أنَّ الإنسان البالغ يقنع بما لديه للاكتفاء الذاتي، وعلى نقيضه الطفل في سنواته الأولى، فألعابُه الجامدة لا تُسمن ولا تُغني من جوع.
لذلك نجده كثيرًا ما يفكك أجزاء ألعابه، مُحاولاً بذلك الحُصول على أكبر عددٍ ممكنٍ منَ المُتعة، وهذا ما يفسر: "
وعلى حسب همة المرء تكون الوسيلة"، فالبعضُ يكتفي بما هو متوفِّر في حدوده الضَّيقة، والبعضُ الآخر يبتكر ويزاوج في الأفكار والإستراتيجيات، ونتيجة ذلك حبل العقول بالحلول.
فعندما يُدنِّس المرءُ شرف عقله، ويغتصبه على حين غفلة مِن أمره، ويكون اغتصابُه بإجباره على مشاهدة ما حرَّمه الباري، وهو بفعلته هذه يُؤدِّي بعقلِه إلى رُكُوده، وانطفاء شُعلته، وفقدان جميع جوارحه وجوارح العقل المَلَكاتِ العقليةَ المختلفة؛ وبذلك يُهيئه للانسياق وراء "كل ما هَبَّ ودَبَّ"، وهو ما يمكن تسميته بـ"
الفناء المبكر".
ومن صُوَر التدنيس أيضًا: سيطرة الشَّهَوات الجنسيَّة على المرء، مما يجعلها شغْله الشاغل، وبما أننا نؤمن بأنه منَ الأمور المسلَّم بها هو أن الأمر - أيًّا كان - الذي يوليه الإنسان جُلّ اهتمامه وتركيزه، فسيكبر هذا الأمر، وإن كان في الأصْل لا يُساوي ذرة، وسيأخذ في الاستفْحال إلى أن يُصبح جزءًا مِن شخصية ذلك الإنسان.
إذًا؛ يُمكننا القولُ بأن انشغال المرْء بتلك الرّغبة، من شأنها أن تثبطَ جميع العمليات العقليَّة التي كانت على وشَك الظُّهُور.
والكثيرُ منَ البَشَر قد حباهم الباري "
سَلطنة القلم"، فإذا ما ابتدؤوا فتح محبرتهم، وأيقظوا عقولهم من فترة استرخائها، يُسمع صدى حديث أوراقهم؛ ولكنهم ألقوا بكلِّ هذه النعم وجعلوها حبيسة جدران قشرتهم الدماغية؛ مما يؤدِّي إلى اختناقها، وبالتالي موتها قهرًا، ومِنَ المعروف أن أيَّة خلية عصبيَّة تموت في الدماغ، فإنه منَ المستحيل أن تنبضَ فيها الحياةُ مرَّة أخرى.
جميع ما سبق ذِكْره هي أضربٌ للخائن لعقله، وللمُنتهك لحرمتِه، وإذا ما أرَدْنا التحدُّث عن أصل هذا النوع من الإخلاص، فسنجد أن دين الإسلام قد تحدَّث عنه، ولو كان الرابط غير مباشر؛ يقول تعالى: {
اقْرَأْ} [العلق: 1]، وكأنه يُنادي بضرورة وفاء المرء لعقله، وحقيقةً أجد القراءة من أكثر صور الوفاء بروزًا، وكذا البُعد عن السفاسف الدنيا، ومحقرات الأمور، والتوجُّه العقلي السليم من شأنه أن ترتقي من أجله الأمم، وعلى العكس، فمن شأنه أيضًا تنحط قِيَم أمم أخرى، فهو كما يُقال: سلاح ذو حدين: إن أُحسن استخدامه، فسيكون الوليد نعمة على المرء، وإذا أُسيء استخدامه، فسيكون الوليد نقمة عليه - المرء.
ويستحضرني هُنا موقف ينم عن الاستخدام الأمثل للعقل، ونتيجة الإخلاص للعقل، فقد بدأ العقل يتجاوَب مع مَن أحسن استخدامه؛ فعن عبدالله بن عمرو بن العاص، قال: "إنَّ رجلاً قال: يا رسول الله، إن المؤذنين يفضلوننا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قلْ كما يقولون، فإذا انتهيت فسل تعطه)) المحدث: الألباني، المصدر: صحيح أبي داود.
ففي هذا الحديث، نجد أن السائل قد طَمع في الثواب المُهدى للمؤذنين، عندما قال الرسول - عليه الصلاة والسلام -: ((المؤذن يغفر له مد صوته، ويصدقه من سمعه من رطب ويابس، وله مثل أجر مَن صلى معه)) الراوي: البراء بن عازب، المحدث: الألباني، المصدر: صحيح الجامع.
وما يهم في هذا المقام هو مدى فِطنة السائل، وكيفيَّة استخراج الحسنات من مكامنها، وذلك برجاحة عقله، ولا تَتَأَتَّى هذه الفطنة إلا بالعلم، ولا يأتي العلم إلا بالقراءة ومجاهَدة النفس ومعاهدتها، وبالتالي يكون الإخلاصُ للعقل قد اكتمل، وأخذ حقه بلا انتهاك لحُرْمَتِه.
وقبل أن ينطفئَ وهجُ السراج، سأقتبس من نوره القليل؛ لأسيرَ إلى أعماق قلبي؛ لأُسمع نبض أمنيته لكم، ولتظهر كالشمس في كبد السماء من خلال الشُّعاع المُقتبس، فلعلها - الأمنية - تتحقق، فجُلّ ما يرجوه أن تنعكس الأضواء، وتُسكب الأحبار؛ فداءً لما ميزنا به الله عن غيرنا، والذي بسببه كُنا بشرًا، واستُثنينا عن سائر المخلوقات بأمر الباري لنا بخلافة الأرض وعمارتها، محاولين بذلك مساعدته - العقل - وعدم تركه يَتَخَبَّط تائهًا، حتى إذا مُدَّت له يدٌ ماكرة، استقبل مثيرها على جهل منه وغفلة.
وألاَّ يقتصرَ مفهوم الإخلاص على التعامُل البشري وما سواه، وأن ننظرَ للموضوع بنظرةٍ ثاقبة ملؤها رغبة في التغيير - ولو بنسبة يسيرة - وألا تُنتهك حُرمات فتيل عقول البشريَّة.
إيناس حسين مليباري
ALZAHRA