لقد حثَّ الإسلام على الصدقات، والإنفاقِ في سبيل الله - عزَّ وجلَّ - قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245]، ورغَّب الإسلام في تفقُّد أحوالِ الفقراء والمساكين، والمحتاجين والمعوزين، وحثَّ على بذْل الصدقات لهم، فقال – تعالى -: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ...} الآية [التوبة: 60]، وقال – تعالى -: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271].
ووعد على ذلك بالأجر الجزيل، والثواب الكبير؛ قال – تعالى -: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]، وقال – تعالى -: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]، ولا يخفَى على المسلِم فوائدُ الصدقات، وبذْل المعروف للمسلمين، والإحسان إلى الفقراء والمساكين، لكن لا بدَّ أن يعرفَ الجميع أنَّ المساجد لم تُبنَ لاستدرار المال، وكسْر قلوب المصلِّين، واستعطافهم من أجل البذْل والعطاء، بل الغايةُ منها أعظمُ من ذلك بكثير، فالمساجد بيوتُ عبادة، ومزارع خيرٍ للآخرة، فالأصلُ فيها، إقامة ذِكْره - جلَّ شأنه - والصلاة، وغير ذلك من محاضرات ودروس علميَّة؛ قال – تعالى -: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ} [النور: 36].
فالواجب على الجميع احترامُ بيوت الله - تعالى - من كلِّ ما يُدنسها، أو يُثير الجدلَ والكلام غير اللائق بها، فليستْ بأماكن كسْب، وسبل ارتزاق؛ لجمْع حُطامِ الدنيا، ورَفْع الصوت ولغط الكلام، فلا تكاد تُصلِّي في مسجد إلاَّ ويُداهمك متسوِّلٌ وشحَّاذٌ، ويطاردك سائلٌ ومحتاج، وليس العجب في هذا، ولكن العجب عندما ترى رجلاً أو شابًّا يافعًا وهو يردِّد كلماتٍ لطالما سمعناها، ولطالما سئمناها، فيقف أحدُهم، ويردِّد كلمات عَكَف على حِفظها أيَّامًا طوالاً، وساعات عديدة، مدفوعًا من قبل فئة مبتزَّة، أو جهة عاطلة، تُريد المساسَ بأمن هذا البلد واستقراره، وتشويه صورته أمام المجتمعات.
عباد الله:
إنَّ تلك المناظر المخجلة التي نراها في بيوت الله – تعالى - لهي دليلٌ على عدم احترام المساجد، وعدم معرفة السبب الذي من أجله بُنيت، ودليلٌ على نزع الحياء، وعدم توقير بيوت الله، وكم تُطالعنا الصحف اليوميَّة بتحقيقات صحفية مع أولئك المبتزِّين من رجال ونساء، ولسان حالهم جميعًا يقول: نُريد مالاً بلا عمل، لقد فسخوا الحياء من وجوههم، ولهذا قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا لم تَستحِ، فاصنعْ ما شِئتَ)).
أيُّها الإخوة في الله:
تُشير الإحصائياتُ إلى أنَّ نسبةً عالية من المتسولين المقبوض عليهم هم من الأجانب، إذ تتراوح نسبةُ السُّعوديين من المتسولين قرابة 13%، بينما تتراوح نسبة الأجانب من المتسولين قرابة 87%، من خلال إحصائيات آخِر ثمان سنوات في إشارةٍ واضحة للنسبة العالية التي يُمثِّلها المتسولون الأجانب، إذ يستغلُّون التكافل، والبر والرحمة التي يحضُّ عليها الدِّين الإسلامي في استدرارِ العطف.
إنَّنا في هذا الوقت من الزمان، الذي تفشَّى فيه الجهل، وانتشرتْ فيه البطالة، اعتدنا كلَّ يوم - وبعدَ كلِّ صلاة تقريبًا - على مناظرَ مؤذية، ومشاهد مؤلِمة، يقوم بتمثيلها فئةٌ من الشباب المدرَّبين على إتقانِ صناعة النصب والاحتيال، بممارسة مهنة الشحاذة، وأكْل أموال الناس بالباطل، ولهم في ذلك أحوالٌ وأشكال، فمنهم مَن يقوم بتجبيس يدِه أو رِجله، أو أيِّ جزء من جسده، ومنهم مَن يتصنَّع البلاهة والجنون، ومنهم مَن يدَّعي الإصابةَ بحادث، أو مَوْت والد أو أم، أو حصول مرض، أو تَرْك ديون، وتُرك له أخوة وأخوات، ويقوم برعايتهم، والإنفاق عليهم، والدَّيْن أثقل كاهلَه، ولا يستطيع السداد، ومنهم مَن يفتعل البكاءَ، وقد يجلب معه ابنَ الجيران أو ابنتَهم؛ ليمارسَ الشحاذة بها؛ لاستعطاف القلوب، وقد يُقسِم بالله كاذبًا أنَّه لولا تلك الدُّيون، وعِظَم المسؤولية، لَمَا وقف أمامَ الناس، وغير ذلك من الأعذار والأكاذيب، التي لم تَعُدْ تنطلي على أحدٍ من العقلاء.
وكم هم الفقراء والمحتاجون، الذين نَعرِفهم ويعرفهم الكثير! ومع ذلك تجدُهم متعفِّفين عن سؤال الناس، ولا يسألون إلاَّ الله الرزَّاق ذا القوة المتين؛ لأنَّهم أيقنوا أنَّ الرزق من الله وحده، وبيده وحده، فامْتثَلُوا أمرَ ربهم - تبارك وتعالى - القائل في مُحكم التنزيل: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22]، ولقدْ امتدحهم الله - تعالى - لعدم مدِّ أيديهم للناس أو سؤالهم؛ فقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273].
يقول ابن كثير - رحمه الله -: "الجاهل بأمرهم وحالهم يحسبُهم أغنياءَ من تعفُّفهم في لباسهم وحالهم ومقالهم، وفي هذا المعنى الحديثُ المتَّفق عليه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ليس المسكينُ الذي تردُّه التمرةُ ولا التمرتان، واللُّقْمة واللقمتان، والأكْلةُ والأكلتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غِنًى يُغنِيه، ولا يُفطن له فيُتصدَّق عليه، ولا يَسأل الناسَ شيئًا))".
وإليكم عبادَ الله، بعضَ الأدلة التي تُحرِّم التسوُّلَ، وسؤالَ الناس من غير حاجة:
فقد ثَبتَ في الصحيحَين من حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما يزالُ الرجلُ يَسألُ الناسَ، حتى يأتيَ يومَ القيامة ليس في وجهه مُزعةُ لَحْم))، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن سَألَ الناسَ أموالَهم تَكثُّرًا، فإنَّما يسأل جمرًا، فلْيَستَقِلَّ، أو لْيَستكثرْ)).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((والذي نفسي بيده، لأنْ يأخذَ أحدُكم حبلَه، فيحتطب على ظهرِه، فيتصدَّق به على الناس - خيرٌ له من أن يأتيَ رجلاً فيسأله، أَعْطَاه أو مَنَعه)).
وفي صحيح مسلم عنه أيضًا قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لأن يغدوَ أحدُكم فيحتطب على ظهرِه فيتصدَّق به، ويستغني به عن الناس - خيرٌ له من أن يسألَ رجلاً أعطاه أو منعه؛ ذلك بأنَّ اليدَ العُليَا خيرٌ من اليد السُّفْلَى، وابدأ بِمَن تعول))، زاد الإمام أحمد: ((ولَأنْ يأخذَ تُرابًا فيجعله في فيه خيرٌ له من أن يجعلَ في فيه ما حرَّم الله عليه))، وفي صحيح البخاري عن الزُّبير بن العوَّام - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لَأنْ يأخذَ أحدُكم حبلَه، فيأتي بحُزمةٍ من الحطب على ظهرِه، فيبيعها فيَكُف الله بها وجهَه - خيرٌ له من أن يسألَ الناس، أَعْطَوْه أو مَنعُوه)).
وفى الصحيحَيْن عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أنَّ ناسًا من الأنصار سألوا رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتَّى نَفِدَ ما عنده، فقال لهم حين أنفق كلَّ شيءٍ بيده: ((ما يكون عندي من خيرٍ فلن أدَّخرَه عنكم، ومَن يستعفِفْ يُعفَّه الله، ومَن يستغنِ يُغنِه الله، ومَن يتصبَّرْ يُصبِّرْه الله، وما أُعطِي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ مِن الصبر)).
وعن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال - وهو على المِنبر وذَكَر الصدقة والتعفُّف والمسألة -: ((اليدُ العُليَا خيرٌ من اليدِ السُّفْلى، فاليدُ العليا: هي المنفقة، واليد السفلى: هي السائلة))؛ رواه البخاري ومسلم.
وعن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - قال: سألتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأعطاني، ثم سألتُه فأعطاني، ثم قال: ((يا حكيمُ، إنَّ هذا المالَ خَضِرةٌ حلوة، مَن أخَذَه بسخاوةِ نفْس بُورِكَ له فيه، ومَن أخذَه بإشراف نَفْس لم يُبارَكْ له فيه، وكان كالذي يأكُلُ ولا يشبع، واليدُ العُليَا خيرٌ مِن اليدِ السُّفْلى))، قال حكيم: فقلت: يا رسولَ الله، والذي بعَثَك بالحقِّ لا أَرْزأَ أحدًا بعدَك شيئًا حتى أفارِقَ الدنيا، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - يدعو حَكيمًا إلى العطاء، فيأبَى أن يقبلَه منه، ثم إنَّ عمر - رضي الله عنه - دعاه ليعطيَه فأبى أن يقبلَ منه شيئًا، فقال عمر: إنِّي أُشهِدُكم يا معشرَ المسلمين، على حكيم: أني أَعْرض عليه حقَّه مِن هذا الفيء، فيأبى أن يأخذَه، فلم يرزأْ حكيمٌ - رضي الله عنه - أحدًا من الناس بعدَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى تُوفِّي"؛ متفق على صحته.
وعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن أصابتْه فاقةٌ فأنزلها بالناس، لم تُسدَّ فاقتُه، ومَن أنزلَها بالله، أوشكَ الله له بالغِنَى، إمَّا بموت عاجِل، أو غِنًى عاجل)).
وقال أبو حامد الغزالي: "الأصل في السؤال التحريم؛ لثلاثة أسباب:
الأوَّل: شكوى الله للخَلْق؛ إذ إنَّ السؤال إظهارٌ للفقر، وأنَّ نِعمةَ الله قصرتْ عنه، وذلك عَيْن الشَّكْوى.
الثاني: أنَّ السائل يُذِلُّ نفسَه لغير الله – تعالى - وليس للمسلِم أن يذل نفسَه إلاَّ لله، وفي السؤال ذُلٌّ للسائل، بالإضافة إلى إيذاءِ المسؤول.
الثالث: في السؤال إحراجٌ للمسؤول وإيذاء له، فهو إمَّا أن يعطيَه حياءً أو رِياءً، "إحياء علوم الدين" (4/278).
وقال الشيخ إبراهيم بن محمَّد الضبيعي: "اتَّفق علماءُ الإسلام على أنَّ التسوُّل حرامٌ لغير ضرورة، ولا يجوز إعطاءُ المتسوِّلين في المساجد؛ لأنَّ فيه تشجيعًا لاستمرارهم في هذا المسلك القبيح، وفيه تعطيلٌ للطاقات البشرية عن الكَسْب المشروع، ويعتمد التحريم على دلالة النصوص الشرعيَّة من الكتاب والسنة".
وقال الحنابلة - رحمهم الله -: يُكرَهُ سؤال الصدقة في المسجد، ويُكرَه إعطاءُ السائل فيه.
وقال الشافعية - رحمهم الله -: يُكره السؤال في المسجد، وإذا كان فيه تهويشٌ ورفْعُ صوت فيحرُم.
وقال المالكية - رحمهم الله -: يُنهى عن السُّؤال في المسجد، ويُكرَه إعطاء السائل فيه.
وقال الأحناف - رحمهم الله -: يحرُم السؤال في المسجد، ويُكرهُ إعطاءُ السائل فيه.
وأكثرُ السلف لا يَروْن جوازَ التصدُّق على مَن يسأل في المسجد، وقال أحدُ السلف: لو كنتُ قاضيًا لم أقبلْ شهادةَ مَن يتصدَّق على مَن يسأل في المسجد.
وممَّا سَبَق تظهر بشاعةُ التسوُّل وأضراره على الفَرْد والمجتمع، وأنَّه يؤدِّي إلى موت الهِمم، ودَفْنِ النبوغ.
والواجب أيضًا على كلِّ فرْد من أفراد المجتمع: منعُهم بالتي هي أحسنُ من غير تشويش على الآخَرِين، ورَفْعٍ للأصوات في المساجد، بل لا بدَّ مِن الحِكمة في ذلك، وتبليغ الجِهات المختصَّة عنهم، وهي مكاتِب مكافحة التسول.
الشيخ خالد بن أحمد المسيطير
ALZAHRA