صنَّف العلماء عن أحكام الحج ومناسكه، وفضائله وإحكامه، وما يغرسه من فضائل وأخلاق سامية، وما يترتب عليه من أجر وثواب - مئات الكتب والرسائل، والمقالات والخواطر، والفتاوى والكلمات، تناولت تلك الفريضةَ العظيمة من جوانب عِدَّة وزوايا مختلفة؛ فالبعض تناول الحج من جهة مسائله الفقهية، وما يتبع ذلك من صفته وكيفيته، وتحقيقه على منهج السلف، ومن ذكر أقوال العلماء والفقهاء والمجتهدين في مسائل عِدَّة منه، وفتاوى عِدَّة تتعلَّق به، ودُوِّنت في كتب الفقه في باب خاصٍّ بالحجِّ وأركانه، وواجباته وسننه.
والبعض الأخر تناول الحج من جهة آثاره النفسية والتعبُّدية في القلب والجوارح، وما يُحْدِثه الحج من تقرُّب إلى الله، وما يبعث عليه من الخشية والمحبة والقرب، وأنواع العبادات القلبية والروحية، وقد تناول ذلك كتبُ السلوك والعبادة ومواعظ المؤمنين، والبعض الأخر تناوَله من آثاره الاجتماعية بين أفراد الأمة، وما يُحْدِث من الرباط الأخوي والإيماني، وآخرون تناولوه من جانب منافعه الدعوية، وكون الحج وسيلة فعَّالة، ومهمَّة في الدعوة إلى دين الإسلام، وبيان ما احتواه الإسلام من العقائد الصحيحة، والقِيَم النبيلة، والأخلاق السامية، والمقاصد الحسنة، على أن الحج وما يتضمَّنه من فوائد يحتاج المزيد للكشف عن أسراره ومنافعه.
ومن السمات البارزة التي تميَّزت به هذه العبادة العظيمة، والتي احتوت جميع المعاني المذكورة - كونه مؤتمرًا إسلاميًّا كبيرًا، يبثُّ روح الأخوَّة الإيمانية بين أفراد أمة الإسلام في أعظم صورها وأبهى معانيها؛ إذ هو مصدر قوة المسلمين، وسرُّ توحُّدهم، ويتَّضح كون الحج مؤتمرًا إسلاميًّا من جهات عِدَّة:
1
- كونه يدل على الوحدة الإسلامية بكل معانيها وجميع صورها، ويؤكِّد على روح التراحُم والتآخي بين أفراده، فليس هناك ما يجمع هذا الكمَّ من الناس وهم يؤدُّون شعيرة من شعائر الإسلام في مكان واحد، على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم - مثلُ شعيرة الحج؛ حيث تذوب لغة الفوارق - اللغة واللون والجنس - وتبقى اللغة الوحيد للتخاطب هي لغة المحبة والأخوة والدين.
2- إن قدوم المسلمين من شتَّى بقاع المعمورة لأداء تلك الفريضة بلباس واحد وتلبية واحدة وتوجه واحد - يغيظ أعداء الإسلام، بل يرعبهم ويخيفهم، ويربك مخطَّطاتهم التي يعدُّونها للتفريق بين أبناء الأمة الواحدة، فإذا بالحج يبطل جميع تلك المكايد والمخططات والتصوُّرات، ويجعلها هباء منثورًا، وهم ما بين حاقدٍ أعمى الحسدُ قلبَه، يغيظه اجتماع المسلمين على كلمة واحدة، وما بين مفكِّر يبحث عن سرِّ عظمة هذا الدين، فيجد - ومن خلال هذا المؤتمر الإسلامي - من اجتماع أهل الإسلام، وتوحُّد كلمتهم ما يدعوه إلى الإسلام والنطق بكلمة الشهادة.
3- كون ذلك المؤتمر يجتمع فيه العلماء والمفكِّرون، حيث تتلاقَح الأفكار، ويتبادلون الآراء والتجارِب، ويتحاورون فيما بينهم في تناول قضايا المسلمين وقضاياهم المصيرية، والسعي لإيجاد الحلول المناسبة لها، وينقل أحدهم للأخر ما في بلاده من مآسٍ وويلات ونكبات، ويتَّجه الجميع إلى المولى وبدعاء خاشع، وفي مواقف عظيمة كموقف عرفة حيث تنزل الرحمات، ونزول السكينة - أن ينصر الله امة الإسلام، ويعيد لها أمجادها وعزها، فيزول ما بين علماء الأمة من تباعُد وتفرُّق، فيتحقق المقصود الأعظم من اجتماع الكلمة، وائتلاف القلوب، وتوحد الصفوف.
4- كونه مؤتمرًا يذكر فيه البشرية بأصلهم العريق الممتدِّ في عمق التاريخ، منذ أبيهم إبراهيم - عليه السلام - وهو ما يزيد من فُرَص التلاقي والتحاوُر بين أبناء الأمة الإسلامية، وهو دعوة لغيرهم من الأديان في أن يلبُّوا نداء الرحمن بترك عبادة الشيطان، والإعلان عن الانتماء إلى دين الإسلام؛ قال - تعالى -: {
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]، فالإسلام الذي بعث الله به الرسل - الإسلام العام - هو الاستسلام لله، والخضوع له، والحج ومناسكه من الفرائض التي تقوِّي تلك المعاني في نفوس الحجاج، وتأمَّل معي النداء الموجَّه من الله لأبينا إبراهيم؛ حيث يقول الله: {
وَأَذِّنْ في النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 27- 28]، حيث وجَّه الله نداءَه إلى جميع العالمين من بني البشر؛ لكي يستجيبوا للنداء الرباني، الذي ينقذهم مما هم فيه من شقاء وذلٍّ، إلى عزٍّ وسعادة في الدارين.
وعلى أساس ما تقدَّم، فبشيء من التخطيط المُنَسَّق والتوجيه المدروس يمكن استثمار هذا اللقاء - ضمن تلك الأجواء الروحية، وعودة الحجاج إلى نقاء الفطرة – والمؤتمر؛ لتعزيز التآخي والاجتماع، ومن خلال مناقشة ما يدور من أوضاع الأمَّة الإسلامية، ومن خلال حوار بنَّاء، ممَّا له أبلغ الأثر في نصرة الإسلام وأهله، وإشاعة روح المحبة والتناصُر؛ ليتحقق فينا قول الله: {
كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر} [آل عمران: 110].
اللهم وفِّق حجاج بيتك المعظَّم، واحمِ حرَمَك وبلاد المسلمين من كل سوء وكَيْد، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على خاتم النبيين والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، محمد وعلى آله وصحبه وسلم.مرشد الحيالي
ALZAHRA