ما بال أم الدرداء مُتبذّلـة ؟
دعونا ندخل بعض بيوت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم لنرى طرفاً من العشرة الزوجية فيها !
لندخل أولاً بيت ذلك العابد الزاهد ، أعني عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما .
قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما : أنكحني أبي امرأة ذات حسب ، فكان يتعاهد كَـنـَّـتَـهُ فيسألها عن بعلها ، فتقول : نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشا ، ولم يَفْتش لنا كَنَفاً مذ أتيناه ! فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : القني به .
قال عبد الله : فلقيته بعد .
فقال :كيف تصوم ؟
قلت : كل يوم .
قال : وكيف تختم ؟
قلت :كل ليلة .
قال : صم في كل شهر ثلاثة ، واقرأ القرآن في كل شهر .
قال : قلت : أطيق أكثر من ذلك .
قال : صم ثلاثة أيام في الجمعة .
قلت : أطيق أكثر من ذلك .
قال : أفطر يومين ، وصم يوما .
قال : قلت : أطيق أكثر من ذلك .
قال : صم أفضل الصوم صوم داود ، صيام يوم وإفطار يوم ، واقرأ في كل سبع ليال مرّة .
قال عبد الله : فليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه البخاري ومسلم .
و( كنّته ) أي زوجة ابنه .
وقوله صلى الله عليه وسلم : صُم ثلاثة أيام في الجمعة : أي في الأسبوع .
وقولها : لم يفتش لنا كنفاً : أي لم يكشف لنا ستراً ، وهو كناية عن عدم إعطائها حقها من المعاشرة .
وفي رواية للشيخين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ألم أُخبر أنك تصوم النهار ، وتقوم الليل ؟
قال : فقلت : بلى يا رسول الله .
قال : فلا تفعل . صم وأفطر ، وقم ونم ، فإن لجسدك عليك حقّـأً ، وإن لعينك عليك حقّـاً ، وإن لزوجك عليك حقّـاً ، وإن لزورك عليك حقّـاً .
ومعنى ( لزورك ) : أي زائرك .
وفي رواية قال رضي الله عنه : زوّجني أبي امرأة من قريش ، فلما دخلت على جعلت لا أنحاش لها مما بي من القوة على العبادة من الصوم والصلاة ، فجاء عمرو بن العاص إلى كـنّته حتى دخل عليها ، فقال لها : كيف وجدت بعلك ؟ قالت : خير الرجال - أو كخير البعولة - مِنْ رجل لم يَفتش لنا كَنَفَاً ، ولم يعرف لنا فراشا ، فأقبل عليّ فعذلني وعضّني بلسانه ، فقال : أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب فَعَضَلْتَها وفعلتَ وفعلتَ ، ثم انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكاني ، فأرسل إليّ النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته ... الحديث . رواه الإمام أحمد .
ومعنى ( عضّني ) أي شدّد علي القول .
فهذا عبد الله لم يُعذر في عدم إعطاء أهله حقّهم وإن كان يشتغل بالعبادة والطاعة والقُربة
ولم يُغفل عمرو بن العاص رضي الله عنه زوجة ابنه بل تعاهدها وسألها عن ابنه وتعامله وخُلُقه
وهذه سُنة مفقودة ، بل هي من هدي أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام .
فهذا خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام يجيء إلى بيت إسماعيل فلم يجد إسماعيل ، فسأل امرأته عنه ، فقالت : خرج يبتغي لنا ، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم ، فقالت : نحن بِشرّ ، نحن في ضيق وشدة ، فشكت إليه .
قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ، وقولي له يُغيّـر عتبة بابه .
فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا ، فقال : هل جاءكم من أحد ؟
قالت : نعم ، جاءنا شيخ كذا وكذا ، فسألنا عنك فأخبرته ، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة .
قال : فهل أوصاك بشيء ؟
قالت : نعم ، أمرني أن أقرأ عليك السلام ، ويقول : غيّر عتبة بابك .
قال : ذاك أبي ، وقد أمرني أن أفارقك ! الحقي بأهلك ، فطلقها وتزوج منهم أخرى ، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ، ثم أتاهم بعد فلم يجده ، فدخل على امرأته فسألها عنه ، فقالت : خرج يبتغي لنا .
قال : كيف أنتم ؟
وسألها عن عيشهم وهيئتهم .
فقالت : نحن بخير وسعة ، وأثنت على الله .
فقال : ما طعامكم ؟
قالت : اللحم .
قال : فما شرابكم ؟
قالت : الماء .
قال : اللهم بارك لهم في اللحم والماء . قال النبي صلى الله عليه وسلم : ولم يكن لهم يومئذ حب ، ولو كان لهم دعا لهم فيه . قال : فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه .
قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومُريه يُثبت عتبة بابه .
فلما جاء إسماعيل قال : هل أتاكم من أحد ؟
قالت : نعم ، أتانا شيخ حسن الهيئة ، وأثنت عليه ، فسألني عنك فأخبرته ، فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير .
قال : فأوصاك بشيء ؟
قالت : نعم ، هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تُثبت عتبة بابك .
قال : ذاك أبي ، وأنت العتبة ! أمرني أن أمسكك . رواه البخاري .
وفرق بين تعاهد زوجة الابن وسؤالها عن زوجها وعن معاملته وأخلاقه ، وبين تحريض الابن على امتهان كرامة زوجته ! وأن لا تُعطى شيئا من حقوقها !
ما بال أم الدرداء مُتبذّلـة ؟
زار سلمان الفارسي رضي الله عنه أخاه أبا الدرداء رضي الله عنه فما وجده لكنه وجد أم الدرداء وهي متبذِّلة ، فسألها عن شأنـها .
فقالت : أخوك أبو الدرداء ليس له بنا حاجة في الدنيا !
فجاء أبو الدرداء ، فصنع له طعاما .
فقال له : كُل .
قال : فإني صائم .
قال : ما أنا بآكل حتى تأكل . قال : فأكل .
فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم قال : نَـم ، فنام ، ثم ذهب يقوم ، فقال : نَم فنام ، ثم ذهب يقوم ، فقال : نَم .
فلما كان من آخر الليل قال سلمان : قُم الآن ، فَصَلَّيَا .
فقال له سلمان : إن لربك عليك حقّـا ، ولنفسك عليك حقّـا ، ولأهلك عليك حقّـا ، فأعطِ كل ذي حق حقّه ، فأتى أبو الدرداء النبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق سلمان . رواه البخاري .
ومعنى ( متبذّلة ) أي لابسة ثياب البذلة وهي المهنة ، أي أنـها تاركة الزينة . وعرّضت عن إعراض زوجها عنها بقولها : أخوك أبو الدرداء ليس له بنا حاجة !
قال ابن حجر : وفيه جواز النهى عن المستحبات إذا خشي أن ذلك يُفضي إلى السآمة والملل وتفويت الحقوق المطلوبة الواجبة أو المندوبة الراجح فعلها على فعل المستحب المذكور . انتهى .
فانظر إلى فقه هذا الصحابي الجليل - أعني سلمان رضي الله عنه - كيف قدّم الحقوق والواجبات على النوافل من صيام النهار وقيام الليل ، وما ذلك إلا لأن حق الأهل أولى ، وهو ما أقرّه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فكيف بمن يضيع الأوقات في السهر على المحرمات ، ويترك الحقوق والواجبات ؟!
إذا المسألة مُوازنة بين الحقوق والواجبات
وإذا تعارضت حقوق الخلق مع نوافل الطاعات قُدّمت حقوق العباد على نوافل الطاعات .
والأمر يحتاج إلى موازنة
وكثير من الناس بحكم رفع الحرج والكلفة بينه وبين زوجته وأولاده يُعطيهم فضلة وقته – هذا إن فضُل لهم فضلة ! –
فتُنهك قواه في عمله
وتنتهي طاقته في وظيفته
وربما انتهى وقته مع رفقته
ثم يأتي ليُلقي جسداً مُتعباً مُنهكاً - كأنه خشبة – يُلقيه على فراشه
وربما لا يرى أولاده إلا في المناسبات
أحدهم اشتغل في الدعوة إلى الله في السجون حتى ذهب عامة وقته فيها ، فلا يأتي إلى بيته إلا وقد نام الجميع !
فقال له أحد أبنائه يوماً : يا أبي ! هل تُريدنا ندخل السجون حتى ترانا ؟!
فانتبه الأب ، والْتفتْ إلى زوجته وأولاده وأعطاهم بعض حقوقهم
والبعض الآخر يقول : أولادي يعذرونني !
ثم إذا أهملهم فوقعوا في مصيبة أو زلّت بهم القدم لم يعذرهم بل يُلقي باللوم واللائمة عليهم !
وهو الأولى بأن يُـلام
وهو حقيق بأن يوبّـخ
وأن يُقال له :
إن لربك عليك حقّـا ، ولنفسك عليك حقّـا ، ولأهلك عليك حقّـا ، فأعطِ كل ذي حق حقّـه .
وأن يُقال له : إن لجسدك عليك حقّـأً ، وإن لعينك عليك حقّـاً ، وإن لزوجك عليك حقّـاً ، وإن لزورك عليك حقّـاً .
للشيخ السحيم
م
ALZAHRA