ما سر انجذاب القلوب إلى بيت الله الحرام؟ لماذا كلَّما زاره العبد ازداد له شوقًا، وبه تعلُّقًا، وعليه إقبالاً؟ لقد صدق مَن وصفه بمغناطيس القُلوب، فما سرّ هذه الأشواق؟
تعالَوا معنا نتعرَّف على إجابة هذا السؤال، ونتعرَّف على بعض القصص والأخبار عن شوق الصَّالحين والأخيار لبيت الله الحرام؛ يقول الله تعالى: {
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] {
وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].
قال ابن القيّم - رحِمه الله - معلِّقًا على هذه الآية: ولو لم يكُن له شرف إلاَّ إضافته إيَّاه إلى نفسه بقوله: {
وَطَهِّرْ بَيْتِيَ}، لكفى بهذه الإضافة فضلاً وشرفًا، وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه، وسلَبَت نفوسهم حبًّا له وشوقًا إلى رؤيته، فهو المثابة للمحبِّين يثوبون إليْه ولا يقضون منه وطرًا أبدًا، كلَّما ازدادوا له زيارةً ازدادوا له حبًّا وإليْه اشتياقًا، فلا الوصال يشفيهم ولا البعاد يسليهم، كما قيل:
أَطُوفُ بِهِ وَالنَّفْسُ بَعْدُ مَشُوقَةٌ إِلَيْهِ وَهَلْ بَعْدَ الطَّوَافِ تَدَانِي وَأَلْثُمُ مِنْهُ الرُّكْنَ أَطْلُبُ بَرْدَ مَا بِقَلْبِيَ مِنْ شَوْقٍ وَمِنْ هَيَمَانِ فَوَاللَّهِ مَا أَزْدَادُ إِلاَّ صَبَابَةً وَلا القَلْبُ إِلاَّ كَثْرَةَ الخَفَقَانِ فَيَا جَنَّةَ المَأْوَى وَيَا غَايَةَ المُنَى وَيَا مُنْيَتِي مِنْ دُونِ كُلِّ أَمَانِ أَبَتْ غُلَّبَاتُ الشَّوْقِ إِلاَّ تَقَرُّبًا إِلَيْكِ فَمَا لِي بِالبِعَادِ يَدَانِ وَمَا كَانَ صَدِّي عَنْكِ صَدَّ مَلالَةٍ وَلِي شَاهِدٌ مِنْ مُقْلَتِي وَلِسَانِي دَعَوتُ اصْطِبَارِي عِنْدَ بُعْدِكِ وَالبُكَا فَلَبَّى البُكَا وَالصَّبْرُ عَنْكِ عَصَانِي وَهَذَا مُحِبٌّ قَادَهُ الشَّوْقُ وَالهَوَى بِغَيْرِ زِمَامٍ قَائِدٍ وَعِنَانِ أَتَاكِ عَلَى بُعْدِ المَزَارِ وَلَوْ وَنَتْ مَطِيَّتُهُ جَاءَتْ بِهِ القَدَمَانِ |
بدائع الفوائد: (2 /281)
أذَّن إبراهيم في النَّاس بالحجّ فأجابوا، ودعاهم فلبَّوا، جاؤوا إليْه رجالاً على أرجُلهم، وركبانًا على كلّ ضامر، جاؤوا للحجّ من كلّ فجّ، الشَّوق يحدوهم، والرَّغبة تسوقهم، فهل مرَّ بك ركبٌ أشرف من ركْب الطَّائفين؟! وهل شممت عبيرًا أزْكى من غبار المحرمين؟! وهل هزَّك نغم أروع من تلبية الملبين؟!
لقد كان شوق السَّلف الصَّالح للبيت - مع بعد الشقَّة وصعوبة التّرحال، وقلَّة الظهر وشدَّة الحال - شيئًا لا يوصف، يصدق عليهم قول القائل:
هَتَفَ المُنَادِي فَانْطَلِقْ يَا حَادِي وَارْفُقْ بِنَا إِنَّ القُلُوبَ صَوَادِي تَتَجَاذَبُ الأَشْوَاقُ وَجْدَ نُفُوسِنَا مَا بَيْنَ خَافٍ فِي الضُّلُوعِ وَبَادِ وَتُسَافِرُ الأَحْلامُ فِي أَرْوَاحِنَا سَفَرًا يَجُوبُ مَفَاوِزَ الآمَادِ وَنَطُوفُ آفَاقَ البِلادِ فَأَيْنَ فِي تَطْوَافِنَا تَبْقَى حُرُوفُ بِلادِ هَتَفَ المُنَادِي فَاسْتَجِبْ لِنِدَائِهِ وَامْنَحْهُ وِجْدَانَ المُحِبِّ وَنَادِ لَبَّيْكَ فَاحَ الكَوْنُ مِنْ نَفَحَاتِهَا وَتَعَطَّرَتْ مِنْهَا رُبُوعُ الوَادِي لَبَّيْكَ فَاضَ الوَجْدُ فِي قَسَمَاتِهَا وَتَنَاثَرَتْ فِيهَا طُيُوفُ وِدَادِ لَبَّيْكَ فَاتِحَةُ الرَّحِيلِ وَصَحْبِهِ هَلاَّ سَمِعْتَ هُنَاكَ شَدْوَ الشَّادِي هَذَا الرَّحِيلُ إِلَى رُبُوعٍ لَمْ تَزَلْ تُهْدِي إِلَى الدُّنْيَا بَرَاعَةَ هَادِ هَذَا المَسِيرُ إِلَى مَشَاعِرَ لَمْ تَزَلْ تُذْكِي المَشَاعِرَ رَوْعَةُ الإِنْشَادِ |
إنَّه الشَّوق إلى أرض الرَّحمات، إنَّه الشَّوق إلى أرض العطايا والهبات، فحقَّ للنُّفوس أن تتوق وحقَّ للأرْواح أن تحلِّق أملاً في الوصال، فخذ من خبرهم ما يبعث فيك الرَّغبة، ويحرك في قلبك الشوق.
تعال معي نستعرِض بعض حديث الأشواق:
1- ذكر بعض أهل السير أنَّ شقيقًا البلخي أبصر في طريق الحج مُقْعدًا يتَّكئ على إليته، يمشي حينًا ويضعف حينًا، يرتاح حينًا ويمشي أخرى، كأنَّه من أصحاب القبور ممَّا أصابه من وعْثاء السفر وكآبة المنظر، قال له شقيق:
يا هذا، أين تريد؟ قال: أُريد بيتَ الله العتيق، قال:
مِن أين أتيت؟ قال: من وراء النهر، قال:
كم لك في الطَّريق؟ فذكر أعوامًا تربو على عشر سنين، قال: فنظرت إليه متعجِّبًا، قال: يا هذا،
ممَّ تتعجَّب؟ قال: أتعجَّب من بُعد سفرك وضعف مهجتِك، قال: أمَّا بُعدُ سفري فالشَّوق يقرِّبه، وأمَّا ضعْف مهجتي فالله يحملها، يا شقيق أتعْجب ممَّن يحمله اللطيف الخبير إذا شاء.
2- قدم ابن جريج وافدًا على معن بن زائدة لدَين لحقه، فأقام عنده إلى عاشِر ذي القعدة، فمرَّ بقوم تغنِّي لهم جارية بشعر أميَّة بن ربيعة:
هَيْهَاتَ مِنْ أَمَةِ الوَهَّابِ مَنْزِلُنَا إِذَا حَلَلْنَا بِسَيْفِ البَحْرِ مِنْ عَدَنِ وَاحْتَلَّ أَهْلُكِ أَجْيَادًا فَلَيْسَ لَنَا إِلاَّ التَذَكُّرُ أَوْ حَظٌّ مِنَ الحَزَنِ تَاللَّهِ قُولِي لَهُ فِي غَيْرِ مَعْتَبَةٍ مَاذَا أَرَدْتَ بِطُولِ المُكْثِ فِي اليَمَنِ إِنْ كُنْتَ حَاوَلْتَ دُنْيَا أَوْ ظَفِرْتَ بِهَا فَمَا أَصَبْتَ بِتَرْكِ الحَجِّ مِنْ ثَمَنِ |
قال: فبكى ابنُ جريج وانتحب، وأصبح إلى معنٍ وقال: إن أردتَ بي خيرًا فردَّني إلى مكَّة ولست أريد منك شيئًا، قال: فاستأجر له أدلاء وأعطاه خمسمائة دينار، ودفع إليه ألفًا وخمسمائة، فوافى الناس يوم عرفة.
3- حجَّ الشبلي فلمَّا وصل إلى مكَّة جعل يقول: أبطحاء مكَّة هذا الَّذي أراه عيانًا وهذا أنا؟! ثم غشي عليه، فأفاق وهو يقول:
هَذِهِ دَارُهُمْ وَأَنْتَ مُحِبٌّ مَا بَقَاءُ الدُّمُوعِ فِي الآمَاقِ |
4- عن عبدالعزيز بن أبي روَّاد قال: دخل مكَّة قومٌ حجاج ومعهم امرأة وهي تقول:
أين بيْت ربِّي؟ فيقولون: السَّاعة ترَينه، فلمَّا رأَوْه قالوا: هذا بيْت ربك،
أما ترَينه؟ فخرجت تشتدّ وتقول: بيْت ربي، بيت ربي، حتَّى وضعتْ جبهتَها على البيت، فواللهِ ما رفعتْ إلاَّ ميتة.
5- خرجت أم أيمن بنت علي - امرأة أبي علي الروذباري - من مصر وقْت خروج الحاج إلى الصَّحراء، والجِمال تمرّ بها وهي تبكي وتقول: وا ضعْفاه! وتنشد على إثر قولِها:
فَقُلْتُ: دَعُونِي وَاتِّبَاعِي رِكَابَكَمْ أَكُنْ طَوْعَ أَيْدِيكُمْ كَمَا يَفْعَلُ العَبْدُ وَمَا بَالُ زَعْمِي لا يَهُونُ عَلَيْهِمُ وَقَدْ عَلِمُوا أَنْ لَيْسَ لِي مِنْهُمُ بُدُّ |
وتقول: هذه حسرةُ مَن انقطع عن البيت، فكيْف تكون حسرة مَن انقطع عن ربِّ البيت؟!
5- كان السلطان أبو الفتح ملكشاه ابن السلطان ألب أرسلان صاحب لهْو وصيد وغفلة، صاد يومًا من الأيام صيدًا كثيرًا، فبنى من حوافِر الوحش وقرونها منارةً، ووقف يتأمَّل الحجَّاج وهم يقطعون أرض العراق يُريدون البيت الحرام، فرقَّ قلبُه فنزل وسجد وعفَّر وجهه وبكى.
لقد رقَّ قلبُه لمَّا رأى الحجيج يجوزون من حوله،
كيف لو كان معهم؟! كيف لو جلَّلته ثياب الإحرام؟! كيف لو عاين بيت الله الحرام؟!
وإذا كان التاريخ قد حفِظ لنا ثلَّة من الآخرين، قد تقطَّعت قلوبُهم شوقًا للبيْت ورغبة في الحجّ، ففي الآخرين ثلَّة أيضًا، لم تلْهِهم تجارة ولم تفتنهم حضارة، فسُبحان مَن يُلْقِي الشَّوق والرَّغبة في قَلْب مَن شاء!
6- قال الشَّيخ إبراهيم الدويِّش: ذكر لي أحد الثِّقات العاملين على استِقْبال الحجَّاج في مدينة جدَّة: أنَّ طائرة تحمل حجَّاجًا من إحدى الدول الآسيوية وصلتْ في ثلث اللَّيل الأخير أحد الأيَّام، قال: كان أوَّل الوفد نزولاً امرأة كبيرة السّنّ، فما أن وطِئت قدماها الأرض حتَّى خرَّت ساجدة، قال: فأطالت السجود كثيرًا حتَّى وقع في نفسي خوفٌ عليْها، قال: فلمَّا اقتربنا منها وحرَّكناها إذا هي جثَّة هامدة، فعجِبْتُ من أمرها وتأثَّرت بحالها، فسألت عنْها فقالوا: منذ ثلاثين سنةً وهي تجمع المال درهمًا درهمًا لتحجَّ إلى بيت الله الحرام.
7- ذكر الشَّيخ عبدالكريم الخضير: أنَّ رجلاً من مدينة الرياض كان صائمًا يوم عرفة، فأبصر عبر الشَّاشة الجموع تتحرَّك إلى ربوع عرفة فحرَّكه الشَّوق وغالبتْه الدمعة، وحنَّ إلى تلك المشاعر، فطلب من ابنه أن يلحقه بهم، فتحرَّك من مدينة الرِّياض وأدْرك الحجيج بعرفة، كأنِّي به يبعث بالأشواق قائلاً:
خُذُونِي خُذُونِي إِلَى المَسْجِدِ خُذُونِي إِلَى الحَجَرِ الأَسْوَدِ خُذُونِي إِلَى زَمْزَمٍ عَلَّهَا تُبَرِّدُ مِنْ جَوْفِيَ المُوقَدِ دَعُونِي أَحُطَّ عَلَى بَابِهِ ثِقَالَ الدُّمُوعِ وَأَسْتَنْفِدِ فَإِنْ أَحْيَ أَحْيَ عَلَى لُطْفِهِ وَإِنْ يَأْتِنِي المَوْتُ أُسْتَشْهَدِ |
8- هذا رجل يبصر قوافل الحجيج فتعبث به الأشواق وتعتريه الهموم والأحزان، فأيّ مشهد يبعث الحزن للقاعدين عن الوفود إلى بيْت الله كمشهدِ قوافل الحَجيج بحُدائها الشجي وبمنظرها البهي، فحقَّ للقلوب أن تحزن، وحقَّ للجفون أن تعاف الغمض، وحقَّ للعيون أن تذرف الدَّمع أسفًا على فوْت الرَّحيل إلى أرْض الحجيج، فلم يملك صاحبنا إلاَّ أن يُرْسِل لتلك القوافل:
يَا رَاحِلِينَ إِلَى مِنًى بِقِيَادِي هَيَّجْتُمُ يَوْمَ الرَّحِيلِ فُؤَادِي سِرْتُمْ وَسَارَ دَلِيلُكُمْ يَا وَحْشَتِي الشَّوْقُ أَقْلَقَنِي وَصَوْتُ الحَادِي وَحَرَمْتُمُ جَفْنِي المَنَامَ بِبُعْدِكُمْ يَا سَاكِنِينَ المُنْحَنَى وَالوَادِي وَيَلُوحُ لِي مَا بَيْنَ زَمْزَمَ وَالصَّفَا عِنْدَ المَقَامِ سَمِعْتُ صَوْتَ مُنَادِي وَيَقُولُ لِي يَا نَائِمٌ جِدَّ السُّرَى عَرَفَاتُ تَجْلُو كُلَّ قَلْبٍ صَادِي مَنْ نَالَ مِنْ عَرَفَاتَ نَظْرَةَ سَاعَةٍ نَالَ السُّرُورَ وَنَالَ كُلَّ مُرَادِ تَاللَّهِ مَا أَحْلَى المَبِيتَ عَلَى مِنًى فِي لَيْلِ عِيدٍ أَبْرَكِ الأَعْيَادِ ضَحَّوا ضَحَايَاهُمْ وَسَالَ دِمَاؤُهَا وَأَنَا المُتَيَّمُ قَدْ نَحَرْتُ فُؤَادِي لَبِسُوا ثِيَابَ البِيضِ شَارَاتِ الرِّضَا وَأَنَا المُلَوَّعُ قَدْ لَبِسْتُ سَوَادِي |
فلله ما أعظم خبر النفوس الراغبة، والقلوب الطاهرة! ولم لا يعظم الشَّوق فيها وتعظم الرغبة عندها، والأجر عظيم والرَّبّ كريم؟!
عن أبِي هُرَيرة - رضِي الله عنْه - عنِ النَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: ((ما أهلَّ مهِلٌّ قطّ ولا كبَّر مكبِّر قطُّ إلاَّ بشِّر بالجنَّة)).
وعنْه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن حجَّ هذا البيْت فلم يرفُث ولم يفسقْ، رجع كيوْم ولدتْه أمُّه)).
وعن ابن عُمر - رضي الله عنْه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أمَّا خروجُك من بيتك تؤمّ البيت الحرام، فإنَّ لك بكلّ وطأة تطؤُها راحلتُك، يكتب الله لك بها حسنة، ويمحو عنْك بها سيِّئة، وأمَّا وقوفك بعرفة، إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - ينزل إلى السَّماء الدّنيا، فيباهي بهم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي، جاؤوني شعثًا غبرًا من كلّ فجّ عميق، يرْجُون رحمتي، ويخافون عذابي وَلَم يروني، فكيف لو رأوْني؟ فلو كان عليْكَ مثل رمل عالج – أي: متراكم - أو مثل أيَّام الدنيا، أو مثل قطْر السَّماء ذنوبًا، غسلها الله عنك، وأمَّا رميك الجمار فإنَّه مدخور لك، وأمَّا حلْقك رأسك، فإنَّ لك بكلِّ شعرة تسقط حسنة، فإذا طفْت بالبيْت خرجت من ذنوبِك كيَوْم ولدتْك أمُّك))؛ الطبراني وحسَّنه الألباني.
أسالُ العليَّ العظيم الواحد الأحَدَ الحيَّ القيُّوم: أن يرزُقَنا الوُفود إلى بيتِه الحرام، ويَجعلنا من المقبولين بمنِّه وكرَمه.شائع محمد الغبيشي
مجووووووده