1 - الإيمان بالله تعالى
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده.
أمَّا بعدُ:
فهذه رسالةٌ مختصَرة لبيان الأصول الإيمانية وأركان الإيمان، التي تجب على العبيد: اعتقادًا، ومعرفةً، وعملاً، أضعها بين أيديكم؛ راجيًا منَ الله أن يجعلَها في ميزان حسناتي، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، إلا مَن أتى الله بقلْبٍ سليم، وأسأله - تعالى - أن يسهلَ طرْحها وشرحها، وجمعها وفهمها.
المنهج الصحيح:اعلم - رحمني الله وإياك - أن الطريق الموصلة إلى الله - تعالى - هي التي بيَّنها اللهُ - تعالى - لنا بقوله وقرآنه، من لزوم اتِّباعه واتِّباع الرسول محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين؛ قال - تعالى -: {
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]؛ أي: إلا ليعبدوا الله وتوحيده، وقال - تعالى -: {
وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((إنه مَن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسُنَّة الخُلفاء الراشدين المهْديين مِن بعدي، تَمَسَّكُوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحدثات الأمور؛ فإنَّ كل بدْعة ضلالة))؛ رواه أبو داود، وصحَّحه الألباني، وقد حذَّر الله ورسوله من مغبة المخالَفة؛ فقال - جلَّ شأنُه -: {
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، وقال - عز من قائل -: {
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وقال - عليه الصلاة والسلام -: ((مَن أحدث في أمْرنا هذا ما ليس منه، فهو رد))؛ أخرجه مسلم؛ أي: مردود، لا يُقبل.
الإيمان والإسلام:واعلم - رحمني الله وإياك - أنه لا إسلام بلا إيمان، ولا إيمان بلا إسلام؛ فالإسلامُ والإيمانُ متلازِمان، إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فإنْ ذكرت الإسلام فلا بد أن يتضمن معنى الإيمان، فالمسلمُ إن كذَّب بأحد أركان الإيمان فقد كفَر، وإن ذكرتَ الإيمان فلا بد أن يتضمن معنى الإسلام، فالمؤمنُ إنْ كذَّب بأحد أركان الإسلام فقد كفر، وإن ذكرت الإسلام والإيمان معًا صار لكلٍّ منهما معنى معينٌ، فالإسلام هو الدِّين الحقُّ الذي لا يُقبل سواه، وهو الذي أجمله الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الأركان الخمسة، والإيمان هو ما أجْمله - عليه الصلاة والسلام - في الأركان الستة التي هي متناول هذه الرسالة - إن شاء الله تعالى.
والإيمان هو: ما وَقَر في القلْب، وصدَّقه اللسان، وعملتْ به الجوارحُ – والجوارح؛ أي: الأعضاء - أو هو: ما وقَر في الجنان، وصدقه اللسانُ، وعملتْ به الأركانُ.
والإيمان متضمن للعمل، فلا ينفع التصديقُ بلا عمل حتى يُقال: مؤمن؛ فقد قال - عليه الصلاة والسلام -: ((الإيمانُ بضع وسبعون - أو بضع وستون - شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شُعبة من الإيمان))؛ أخرجاه.
وإماطةُ الأذى عمَل بالأركان والجوارح، بالإضافة إلى الشعَب المتبقية، فكثيرٌ منها عمل جوارح؛ وقال - تعالى -: {
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]، وتفسيرها كما وردتْ في السياق القرآني: "وما كان الله ليضيعَ صلاتكم"، فوصَف الله الصلاة بالإيمان وهي عمل؛ وقال - تعالى - في وصف المؤمنين: {
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]، والجهادُ في سبيل الله عمَلٌ، بل وقد وصَف الله المؤمنين في سور عدَّة - وكما في أول سورة المؤمنون أيضًا - بأعمال تُدَلِّل على إيمانهم، كمُحافظتهم على الصلوات، والخُشُوع فيها، وكحِفْظهم لفُرُوجهم، فهذه كلُّها أعمال.
والإيمانُ يزيد وينقص؛ قال - تعالى -: {
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]، والأمر في زيادة الإيمان ونقصانه مُشاهَد لدى عوامِّ الناس، فضْلاً عن خواصِّهم، ولا يُماري في هذا إلا مكابرٌ أو جاهلٌ، فالمرءُ ربما وجد نفسَه في يوم ملهوفًا على قراءة القرآن، خاشيًا لله - تعالى - باكيًا مُتضرِّعًا، قد خرجت الدنيا مِن قلبه، وقد يكون في يوم آخر لاهيًا بأُمُور الدُّنيا، قد ضَيَّع بعض حُقُوق الله عليه.
أمَّا أركانُ الإيمان فستة - كما بيَّنَها الرسولُ الكريم، صلى الله عليه وسلم - وهي: الإيمانُ بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدَر؛ خَيْره وشرِّه.
الإيمان بالله:أما الإيمان بالله - سبحانه وتعالى - فيتضمَّن أربعة أمور: الإيمان بوُجُوده، وبربوبيته، وبأسمائه وصفاته، وبأُلُوهيته، والثلاث الأول هي ما يُعرف بتوحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد الله بألوهيته أو بأفعال العباد هو ما يُعرف بتوحيد القصْد والطلَب.
الإيمان بوجوده - تعالى -: إنَّ الله مَوْجُود، ليس قبله شيءٌ، وليس بعده شيءٌ، ولا يُماري في هذا إلا مكابرٌ ومُعاندٌ، قد أضلَّهُ الله - نسأل الله السلامة - فالهدايةُ هي مِن عند الله - تعالى - فاطْلُبها منه، وليستْ من عند العقل ولا بالنظر؛ ولذا فإنَّ كثيرًا ممن يتسمون بالعباقرة والمثقفين قد أنكر وجود الله، ولم ينفعه عقلُه.
والله - تعالى - خلَق أرواح الخلْق، وكل مولودٍ يولَد على الفطرة، هذه الفطرةُ التي أخذها معه من عالم الذَّرِّ والأرواح، وهي التي تدعو إلى عبادة الله وحده، فأنت ترى أنَّ غالبية البشرية تحركها فطرتها للبَحْث عن إلهٍ تعبده، فمَن هداه الله - تعالى - بفَضْله، أرشده إلى الإسلام، وإلى عبادته وحْده - سبحانه - ومَن أضلَّهُ الله بعدْله، فإنك تراه يعبد ما سوى الله؛ مِن أصنام، وبشر، وشجر... إلخ، أو يشرك مع الله ما لم يُنَزِّل به سُلطانًا، أو ينكر وجود الله - تعالى - كالدَّهْريين الملاحِدة، وقد تنامَى عددُهم في المجتمعات الغربية الكافرة، ووصل تأثيرُهم إلى عقول بعض شباب المسلمين الذين يعيشون بين ظهرانيهم - نسأل الله العافية.
وبالإضافة إلى الفطرة السليمة التي تدلنا على أنَّ للكون إلهًا، لا بد مِن معرفته وعبادته، وهو الله - تعالى - نجد أدلة كثيرة على وجوده - سبحانه - لا تكاد تُحْصى، بل إن كلَّ شيءٍ يدلُّ على أنه الله الواحد القهار، الملِك الجبار، الذي يستحق العبادة دون سواه.
وللفائدة أذْكُر بعض الأدلة العقلية:من هذه الأدلة: أن كل شيء لا بد له مِن خالقٍ وصانع، فلا شيء يَصْنَعُ نفسَه بنفسِه في هذه الدنيا، إذًا فمَن خلَق الكون الشاسع هذا؟ لا بد أن يكونَ هو أعظم من هذا الكون الذي يضم ملايين الكواكب والنجوم والمجموعات الشمسية في مجرَّة واحدة، ويضم ملايين المجرَّات، بل بلايين المجرَّات في فضاءٍ شاسعٍ، لا بداية ولا نهاية، ولا حد ولا طرف له - سبحان الله!
مَن الذي أوجد هذا كله، وجعَله يَسْري بكلِّ اتِّساق وتناغُم؟! ولو أن قنبلةً ذرية رُميتْ على مدينةٍ لأزالتْها عن بكرة أبيها، فكيف لو اختلَّ دوران نجمٍ أو كوكب وصدم الأرض؟! بل إن علماء الفلك يقولون: لو أن الأرض اقتربتْ من الشمس قليلاً لاحترقنا، ولو أنها ابتعدتْ قليلاً عن الشمس لتجمدت الدماء في عُرُوقنا، أفهذا الخلْق الدقيق للكواكب والنجوم والإنسان، وتناسُق العلاقات فيما بينها بكلِّ دقة متناهية - نشأ عن محْض صدفة؟!
أين عقول هؤلاء المنكرين لعظمة الله؟ أهذا التناسُق والكون العظيم كله نشأ مِن انفجار كبير -كما يزْعُمُون؟! فمَن الذي أنشأ هذا الانفجار؟! ومَن الذي أوْجَد هذه الطاقة في تلك الكُتْلة التي انفجرتْ؟! بل ومَن الذي أوجد الكتْلة نفسها؟!
إنَّه الله - سبحانه وتعالى. فلينظرْ هؤلاء إلى إشارة المرور الضوئية،
هل صنعتْ نفسها بنفسها؟! ولو أنَّ خلَلاً وقع في معاييرها الدقيقة لحصلتْ حوادث وكوارث وصدامات، فكيف بالكون؟!
ولينظر هؤلاء إلى الدول والمجتمعات،
وهل يصلح مجتمع بلا قائد يقوده؟! وبلا جيش ولا شرطة ولا محاكم تُنظِّم أموره، وتردع الظالم، وتدافِع عن المظلوم؟! فمَن الذي يدبِّر الأمر كله، ويُدَبِّر أمر السموات والأرض؟! ومَن الذي سيجازي الخلْق على أفعالهم يوم القيامة؟!
إنه الله - تعالى.
لقد جادلني أحدهم ذات مرة، وقال: لو أنَّ للكون إلهًا لما مات الأطفالُ الجياع، ولما حصلتْ حروب حصدتْ رؤوس الملايين ظُلمًا واعتداءً، فقلتُ له: من أجل ذلك لا بد وأنَّ للكون إلهًا؛ حتى يحاسبَ الظالم بنار جهنم، ويدخل المظلوم المؤمن في جنات عرْضها السموات والأرض.
وقد جادلني آخر فقال:
هل رأيت الله؟ لِمَ لا يرينا نفسه؟
فقلتُ: تعالى الله عما يصفون علوًّا كبيرًا،
وهل رأيت عقلك؟ وهل رأى أحد العقل؟ أنا أطلب أن تريني العقل والمشاعر والأحاسيس وتيار الكهرباء، فهذه لم نرَها، ولكنَّنا رأينا آثارها، والله - تعالى - لم نره بأبصارنا، ولكننا رأيناه ببصيرتنا، وبآثار صُنعه البديع - سبحانه وتعالى - انظر حولك وتأمل، وسترى الدلائل والبراهين على وجود الله، ولو أنه - سبحانه - جعلنا نراه لانْتَفَت الحكمة مِن وُجُودنا على الأرض وفي الحياة الدُّنيا، فهذه حياةُ اختبار ومفَر، والآخرة دار جزاء ومقر، ولا بد لنا في الدُّنيا ألا نرى الله؛ لأننا لو رأيناه لنجحنا كلنا في الاختبار، ولما كان لِوُجُودنا في الدنيا من معنى!
فهؤلاء القائلون بذلك - وهم كُثُر في الغرْب - هم في الحقيقة تأثَّرُوا بالحياة المتكَرِّرة التي يعيشونها كل يوم في بلادِهم، وبانكبابهم على الدنيا وجمع المال وصرْفه على الشهَوات، فأصبحوا لا يُؤمنون إلا بالمال وبما يرونه، ولا يريدون صرْف ولو بعض "الهنيهات" يتفكَّرون فيها عن معنى الحياة والحال والمآل، ولذا أصبحوا لا يفرِّقون بين الحق والباطل، وبين المعروف والمنكر، بل ويرون المعروفَ منكرًا، والمنكر معروفًا، وقد تجرَّؤُوا على الله - تعالى - بأن أنكروا بديع صنعه وكرمه - سبحانه وتعالى - ويا للأسف! كم سمعنا عن شباب مسلم راح وارتمى في أحضان الغرب، وعاد ملحدًا لا يؤمن بشيء! فإياك إياك أن تقع في شرَكهم المنصوب.
الإيمان بربوبيته - تعالى -:أما الإيمان بربوبية الله - سبحانه - فيتضمن ثلاثة أمور، وهي: الإيمان بأنه الخالق، والمالك، والمدبِّر، فهو وحده خالقُ كلِّ شيء، ومالكُ كل شيء، ومدبِّر كلِّ شيء، وبما في ذلك الأرزاق.
وهذا النوع من الإيمان لا تكاد تجد أحدًا من الذين يؤمنون بوجوده - تعالى - ينكره، حتى المشركون الذين قاتلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر من الله - تعالى - كانوا يؤمنون بأن الله - تعالى - رب السموات والأرض؛ قال - تعالى -: {
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]، وقال - جل شأنُه -: {
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 63]، وقال - عز من قائل -: {
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87]، ومع ذلك لم ينفعهم توحيد الربوبية، ولم ينقذْ رقابهم من النار؛ لأنَّ المطْلُوب منَ الجن والإنس هو توحيد الله بالربوبية والألوهية أيضًا، وعبادته بلا شرْك ولا شريك، فليتَّقِ الله مَن يجعل مع الله آلهة يدعوها ويعبدها مع الله.
الإيمان بألوهيته - تعالى -: الإيمان بالألوهية هو الحدُّ الفاصل بين المؤمن والمشرك، وهو أن تعتقد أنَّ الله هو الإله الواحد المستحِق للعبادة؛ قال - تعالى -: {
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]، وقد بعث الله الرسل والأنبياء من أجل دعوة الخلْق إلى توحيده – سبحانه - في القصد والطلب والعبادة، وأن يؤمنوا بأنه الإله الحق الذي لا يعبد سواه؛ قال الله - سبحانه وتعالى -: {
إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [فصلت: 14]، وقد نهى الله - تعالى - عن الشرْك، وأمر بعبادته وحده، والإخلاص له وحده؛ قال - تعالى -: {
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]، وقال عز من قائل: {
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]، ولما أخلَّ المشركون بهذا التوحيد، أمر الله - تعالى - الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم، وإراقة دمائهم، واستحلال أموالهم، ونصره والمؤمنين عليهم؛ لأنهم أعرضوا عن توحيد الله وإفراده بالعبادة، فلما عرفوا معنى "لا إله إلا الله" لَم يقولوها؛ قال - تعالى -: {
أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]، هكذا قال مشركو قريشٍ المقرُّون بربوبية الله - تعالى - واستعجبوا أن رسول الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم - دعاهم إلى عبادة الله وحده، وبذلك استحقوا العقاب والخُلد في نار جهنم، ولذا فإنَّ "لا إله إلا الله" علمها والعمل بها لَهُو الميزان الحقيقي لعبادة الله وحده؛ ولذا فإن لها شروطًا ومراتبَ ومقتضيات.
أما شروط لا إله إلا الله:فالعلْم بمعناها، والقَبُول والانقياد لها، والإخلاص، والصِّدْق، واليقين بها، والمحبة.
أما مقتضياتها: فأن تعلمَ معناها: أن لا إله معبود بحقٍّ سوى الله - سبحانه وتعالى.
وأن تقولها موقنًا بها بعد علمها.
وأن تلزمَ مقتضياتها وتعمل بها.
وأن تدعو الغير إلى تعلُّمها وقولها والتزام مقتضياتها.
ولا يُصرف شيء من العبادة إلا لله - عز وجل -:لذا؛ فإن الذين يصرفون نوعًا من العبادة لغير الله قد أشركوا، فدعوةُ الموتى من دون الله شرْكٌ، والاستغاثةُ بالأموات شرك أيضًا، والاستغاثة بالأحياء بشيءٍ لا يقدر عليه إلا الله - تعالى - شرك أيضًا، والخوف الشديد من شخص ما، والاعتقاد أنه يستطيع أن يضرَّ ويمنع، ويرى ويسمع، حتى في الخلوات - شرْكٌ، والمحبة لشخص ما إن زادتْ أو ساوتْ حبَّ الله فهي شرْكٌ، والذبح والنذر لغير الله شرك أيضًا؛ لأن العبادة تكون:
بدنية: كالصلاة والطواف مثلاً.
ومالية: كالنذر والزكاة.
وقولية: كالذكر والدعاء والاستغاثة.
وقلبية: كالخوف والمحبة، والإخلاص والتوكُّل.
والواجب الذي يقر به جميعُ المسلمين هو عبادة الله وحده بالإخلاص وعدم الشِّرك به، فمَن صرف شيئًا من هذه العبادات لغير الله، صار مُشركًا في حق الله - تعالى - ووجب نُصْحه وإرشاده إلى طريق الحق، والصبر عليه، ومُجادلته بالتي هي أحْسَن.
الإيمان بأسمائه وصفاته - تعالى -: الإيمان بأسماء الله - تعالى - وصفاته هو مِن توحيد الإثبات والمعرفة؛ فإن لله - سبحانه - أسماء حسنى، سمَّى بها نفسه، ولها آثار في الدعاء والعبادة سيأتي ذكرُها لاحقًا، وقد ضلَّتْ فِرقٌ وطوائف في باب الأسماء والصفات، ولذا يجب تقرير بعضِ القواعد العامة، التي ترسخ هذا الإيمان في القلوب بشكل صحيح - إن شاء الله.
فاعلمْ: أن الصحابة والسلَف الصالحَ لم يجعلوا شُغلهم الشاغل هو التكلُّم في ذات الله - تعالى - بل كانوا لا يجترئون على ذلك، ولذا عندما سُئِل الإمام مالك - رحمه الله - عن معنى الاستواء، أخذتْه رعدة، وكأنما خرَّ عليه شيء من السماء مِن هَوْل هذا السؤال، فقال - رحمه الله -: الاستواءُ معلومٌ، والكَيْف مَجْهول، والإيمان به واجبٌ، والسؤال عنه بدعة، ثم أمر بطرد السائل من المجلس، أما الذين فتحوا هذا البابَ على مصراعيه فهم الفلاسفة، ومَن تأثَّر بهم من المسلمين، ولذا لا ننصح بقراءة كُتُب الفلاسفة للذين لا علْم لديهم بالشرع؛ لأن أقدامهم قد تزلّ، وأفكارهم لا محالة تتبَلْبل، حتى إن قراءة هذه الكُتُب - كما نص كثيرٌ من العلماء - تدخُل في دائرة المحرَّم؛ لأن القراءةَ قسَّمَها أهلُ العلم على حسب الأحكام التكليفية إلى: قراءة واجبة، ومستحبة، ومباحة، ومكروهة، ومحرَّمة، فقد تكونُ هذه القراءة محرمة - خصوصًا في حق مَن هم لا علْمَ راسخًا لهم بالشرْع - إذا حوت الأهاويل والأعاجيب، والفِتَن والشبهات، ناهيك عنْ مضيعة الوقت.
واعلم - رحمني الله وإياك - أن أسماء الله - تعالى - كلُّها حسنى، لها الحسن والكمال المطلق؛ لأنها دلتْ على ذاته - سبحانه - ودلتْ على صفات كمال.
وأن أسماء الله - تعالى - وصفاته نزلتْ بلسان عربي، فهمها الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - وأخبر عنها، وفهمها الصحابةُ والسلَف الصالح، فلا نحتاج إلى تأويلها أو تبْديلها أو تحْريفها أو تعطيلها، طالما أن سلفنا الصالح لم يقوموا بذلك.
وأننا نثبت ما أثْبته اللهُ - تعالى - لنفسه، وما أثبته رسولُه - صلى الله عليه وسلم - له، مِن غير تبديل، ولا تحريف، ولا تمثيل، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تأويل، ولا تكْييف.
وأن أسماء الله - تعالى - توقيفية على النص، ولا تثبت بالعقل، ولا تُستَنْبَط، ولا تُشتق.
وأن أسماء الله غير محصورةٍ بعدد؛ فهي أكثر من تسعة وتسعين اسمًا؛ قال - عليه الصلاة والسلام - في دعائه المشهور: ((اللهم إني أسألك بكلِّ اسم هو لك، سميتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمتَهُ أحدًا من خلقك، أو استأثرْتَ به في علْم الغيب عندك)).
وأن صفات الله تدلُّ على الكمال المطلَق، فهي إما كمال مطلق من كل وجه؛ كالعزة، والرحمة، والرأفة.
وإما كمال من وجه، ونقص من وجه آخر، كالاستهزاء والمكْر، فلا يوصَف الله - تعالى - بها على محمل النقص، ولكنه يوصَف بها على محمل الكمال، فيقال: إن الله يمكر بالماكرين، ويستهزء بالمستهزئين.
وأن صفات الله الثبوتية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:صفات ذاتية: لا تنفكُّ عنه - سبحانه - كالحياة، والعزة، والعظمة، والرحمة مثلاً.
صفات فعلية: بمعنى متجددة، يفعلها - سبحانه وتعالى - متى أراد؛ كالكلام، والضَّحِك، والنزول، والاستواء، فنحن نؤمن بها؛ لأنه - تعالى - ورسوله أخبرا بها، ولكننا لا نعلم كيفيتها.
صفات خبرية: وهي كاليد والساق والأصابع، فهي بالنسبة لنا أجزاء وأبضاع، وبالنسبة لله - تعالى - هي صفات له، ونحن نؤمنُ بها من غير تكييف، ولا تمثيل، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تأويل، "فالقول في الصفات كالقول في الذات"، فإنك إن خُضْت في الصفات، وبدأتَ تُؤَوِّل وتعطِّل وتكيِّف وتشبه، فكأنما خضتَ في ذات الله - تعالى - وهذا لا ينبغي بأي حال من الأحوال.
آثار الإيمان بالله - تعالى -:إن للإيمان بالله آثارًا عظيمة جدًّا وكثيرة، فالإيمانُ بالله هو الأصْل الأصيل، ولكننا - كما أسلفنا - لا يكفي في الإيمان التصديقُ بالقلب دون العمل؛ فهذا نقص، فإن أردتَ أن تحرص على هذه الآثار، فيجب عليك الإيمانُ والتصديق والعمل معًا، ومن هذه الآثار:
إيمانك بالله يقتضي أن تؤمنَ بجميع الأركان الخمسة المتبقية؛ فتؤمن بأنه خالق كل شيء، وهو قادر على خلْق الملائكة، وهو الذي بعَث الرسل لدعوة الناس إلى توحيده، وأنزل الكُتُب على رسله - عليهم الصلاة والسلام - وهو الحكيم الذي قدَّر الموازين والأقدار، وهو الذي سيبعث الناس جميعًا للحساب يوم الدِّين.
إيمانك بالله - تعالى - بأسمائه وربوبيته وألوهيته - يقتضي أن تحبَّه - سبحانه وتعالى - وأن تخشاه، فتعبده كما أمَر بين المحبة والخَوْف والرجاء.
إيمانك بربوبية الله يقتضي تأمُّلك في عظمة خلْق الله - تعالى - فتتأمل في خلْق السموات والأرض، وفي خلق الكائنات الغريبة، والحيوانات والحشرات الصغيرة، التي لا تُرى بالعين المجردة، فهذا التأمل والتفكُّر يزيد الإيمان، ويقرِّب إلى الله - تعالى.
إيمانك بربوبية الله يقتضي معرفتك بأنَّ الله هو خالِقُ كل شيء، وهو مُدبِّر كل شيء، فعليك أن تتوكَّل عليه - سبحانه - وأن تأخذَ بالأسباب التي أمرك بها، ودَعِ الخلْقَ والتدبير له - سبحانه وتعالى - فهو الذي يخلق ما في الأرحام، ويُعطي البنينَ والبنات، وهو الرزاقُ الكريم، وهو الشافي الكافي، الذي يجلي ما في الصدور مِن همومٍ وغموم، وهو الذي يُفرِّج الكربات - سبحانه.
إيمانك بألوهية الله - تعالى - يقتضي توحيدك إياه، وخوفك منَ الوقوع في مغبَّة الشِّرْك، فتراك تسأل أهل العلم دائمًا وأبدًا عن حكم كذا وكذا، وتداوِم على استغفار الله، والتوبة والرجوع إليه - سبحانه وتعالى.
إيمانك بألوهية الله هو الطريقُ إلى الجنة، ولا طريق إلى الجنة إلا مِن خلال هذا الإيمان، تصديقًا وعملاً، وكما بيَّنا آنفًا أن مشركي قريش - وعلى رأسهم أبو جهل - كانوا يؤمنون بربوبية الله، ولكنهم لما امتنعوا عن الإيمان بألوهيته - سبحانه - وأعرضوا، كان مصيرهم في الدنيا القتال، وأن تُستباح دماؤُهم وأعراضُهم وأموالُهم، ومصيرهم في الآخرة نار لظى خالدين فيها، فقد خسروا الدُّنيا والآخرة - نسأل الله السلامة والعافية.
إيمانك بألوهية الله يقتضي طاعته - تعالى - وطاعة رسوله، وعدم تقديم هوى النفْس أو كلام أحد أو حُب أحد على كلام وحُب واتِّباع الله والرسول - صلى الله عليه وسلم.
إيمانك بألوهية الله - تعالى - يقتضي أيضًا عبادته كما أمرك، وعدم الاستهانة بها، فلا تؤخر صلاة من أجل عمل أو طلب رزق؛ فهو الرزاق الكريم، ولا بد من أداء العبادة كما أمَرَنا - سبحانه وتعالى – ولا بد من أداء الصلوات في وقتها، وإلا لربما وقعت في مغبة الشِّرْك شيئًا فشيئًا، وتقديم هوى النفس على أمر الله، فالواجبُ الحذر من الوقوع في مثْل هذا.
إيمانك بألوهية الله يقتضي العزَّة والاستغناء عما في أيدي الناس، فلا تلجأ إلى العباد في حَل أمورك التي لا يقدرون عليها، ولا تشكو الأقدار لهم، ولكنك تلجأ إلى الله وحده، تُناجيه في صلاتك، وتشكو إليه مصابك، وتدعوه أن يُفرجَ همك وكربتك، وأن يعينك على عبادته وعلى قضاء حوائجك.
إيمانك بألوهية الله يقتضي الشجاعة منك، والإقْدام والجُرأة في الحق، وألا تخشى في الله لَوْمة لائم، فمَن يتوكل على الله فهو حسْبُه.
إيمانك بألوهية الله يقتضي عزوف نفسك عن الدنيا وما فيها، وتعلق قلبك بالآخرة؛ فإنَّ مَن جرب لذة العبادة ولذة التوحيد، عرَف قدر حقارة الدنيا ورغب عنها، وصارتْ نظرتُه أخروية، كأنما جسده على الأرض، ورُوحه في السماء.
إيمانك بألوهية الله يقيك من مغبة الذُّلِّ والهوان، وتجنبك ذل الشهوات، وذل المال والجاه والسلطان والدنيا، ويمنعك من ذُل العشْق والغرام والهيام.
إيمانك بأسماء الله وصفاته يقتضي منك أمرين: دعاء الله بأسمائه وصفاته، والأمر الثاني: عبادته بها، فإن أردتَ أن تدعو الله بالمغفرة والرحمة تقول مثلاً: اللهم يا غفار، اغفر لي، يا رحمن ارحمني، أو: اللهم اغفر لي وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم، والتعبُّد بها يكون بمعرفتك بأن الله هو الغفور الرحيم، فتُسارع إلى الرجوع إليه، وطلب المغفرة والرحمة منه، وعدم اليأس من روح الله.
وإيمانك بأسماء الله وصفاته يقتضي منك الافتقار إلى الله في كل شيء، وهو دواءٌ لداء العجب والكبر والغرور.
وإيمانك بأسماء الله وصفاته يقتضي منك - كما أشرنا آنفًا - أن تتعبَّدَ الله بها، فإنك إن علمت أن الله بصير، وآمنت بهذا الاسم المتحمل لصفة البصر، فإنك لن تقدرَ أن تجعله يطلع عليك وأنت تعصيه، وإن آمنت أنه السميع فلن تُسمعه ما يكره، وإن علمت أنه العليم فلن تخوضَ غمار الحرام، وإن علمت أنه الجبار فلن تتجبَّرَ أو تتكبر على أحد، وإن علمت أنه القهار والقادر على عباده فلن تظلم أحدًا، وإن علمت أنه الشافي فستلجأ إليه في طلَب الشفاء منه حتى وإن ذهبت إلى الطبيب، فالطبيبُ مجرد سبب ووسيلة، أما الشافي الحقيقي فهو الله - تعالى - وإن علمت أنه التوابُ فستسارع إلى التوبة والرجوع إليه، وعدم اليأس والقنوط مِن رحمته، وإن علمت أن عذابَه العذاب الشديد، فسوف تجتهد ألا تعْصيه، وإن علمت صفة النزول في ثلث الليل الأخير فستجتهد للقيام والدعاء، وهكذا دوالَيكَ مع كل أسماء الله وصفاته، تتعبد الله بها.
هذه هي بعض الآثار، وإلا فهي كثيرة جدًّا، ولا يحصيها مثلي، وأرجو من الله أن يتقبل فعلي، وأن يجعلنا من عباده المؤمنين الأخيار، الذين لا يرضون بهذه الدار، بل نفوسهم إلى الآخرة اشتاقتْ، وإلى لقاء ربها تاقتْ، وإلى جنات الخلْد تطلعتْ، وصبرت في سبيل الله مهما توجعتْ، ومهما منها الأواصل تقطعتْ، وأسأل الله أن يعتقَ رقابنا من النار، وأن يدخلنا برحمته جنات تجري من تحتها الأنهار، وأسأله - سبحانه - أن يتقبلَ صالح أعمالنا، وأن يغفرَ لنا جهلنا، وإسرافنا في أمرنا، وهزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا، وأن يرحمنا ويهدينا إلى صراطه المستقيم، إنه هو الغفور الرحيم، وهو - سبحانه - هادي العباد إلى سبيل الرشاد.
وصلِّ اللهُمَّ على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.فادي نضال عمر
مآآآآآجده