سر النجاح و الفشل
كان يمكن لعبد القدير خان الباكستاني أو أوساهير الياباني أن يكونا شخصين عاديين ، أو حتى شخصين فاشلين في حياتيهما ، كما هو حال الكثيرين حول العالم ، لكن الذي حدث أن عبد القدير خان عاد من الغرب ليصنع قنبلة باكستان النووية ، و أوساهير عاد حاملا سر قوة أوربا إلى اليابان .
و كذلك في الجانب الآخر كان يمكن لكثير ممن هم اليوم على الهامش أو في القائمة السوداء أن يكونوا علامات بارزة في رفعة أوطانهم وأممهم ، لكن ما حدث أنهم سلكوا طريقاً مختلفاً كان أفضل ما يرجى من نتائجه أن لا يكون له نتائج .
العجيب أن النموذجين رغم اختلافهما يجتمعان في سر واحد هو وجود وقت فراغ .
اتفقا في امتلاك ذلك الوقت و اختلفا في كيفية التعامل معه .
فبينما كان أوساهير مثلاً يقضي كل وقت فراغه في دراسة أسرار صنع المحركات (لدرجة أنه كان لا ينام إلا بما يكفيه للعودة للعمل) ، كان هناك من تدخل عليه أوقات الفراغ و تخرج دون أن يعبأ بها ، ولذلك كانت النتيجة هي النماذج الحية التالية :
· أحد نزلاء مستشفى الأمل بالرياض يقول: الفراغ قادني لإدمان الهيروين .
· فتاة جامعية :عرضت نفسي للاغتصاب بسبب الفراغ .
عينات مصغرة لواقع يعج بالكثير من الأخطاء التي بدأت من نقطة واحدة.
و مع أننا لا ننكر وجود أسباب أخرى تدفع إلى النجاح أو إلى الفشل ، إلا أن مستوى تقييم الفرد لوقت فراغه هو أحد أهم تلك الأسباب .
ففي حين كان العقلاء يرون وقت الفراغ غنيمةً لا يُفرط فيها ، رآه غيرهم فضلة يمكن التنازل عنها .
وبينما كان أولئك يتعلمون فن إدارته ، كان الآخرون يتعلمون فن إضاعته .
و لذلك رأينا النجاح حليف الفريق الأول و الفشل قرين الفريق الثاني .
والحقيقة أن بإمكان أي شخص الانتقال من عالم الفشل إلى عالم النجاح إذا استطاع التحكم في وقت فراغه .
و الأمر كما ينطبق على الفرد ينطبق على الدولة سواءً بسواء .
و ما تبخل به في استثمار وقت فراغ الأفراد فيما ينفع ، ستدفع أضعافه في علاج ما يجره وقت الفراغ من مشكلات .
فالفراغ سلاح ذو حدين ، إما أن يبني ، أو يهدم ، وإما أن تملكه أو يملكك .
و ربما كان من نافلة القول أن كثيراً من الاختراعات أنجزت في وقت الفراغ ، و كثيراً من الجرائم أيضاً وقعت في وقت الفراغ ؛ فهو وعاء لا بد أن يُملأ .
لا يمكن أن يبقى فارغاً و لا تحدث مشكلة ؛ فالطبيعة تكره الفراغ .
و لك الخيار في أن تملأه بما ينفع ، أو يُملأ تلقائياً بما يضر ، فاليد الفارغة يلعب بها الشيطان
.
و لذلك كانت طريقة تعامل كل منا مع وقت فراغه مؤشراً للمكان الذي سيكون فيه غداً .
في الدول المتقدمة يُعرف للوقت قيمته ، فبمجردِ أن يجد أحدهم فرصة و لو لعشر دقائق يخرج كتابا من حقيبته ً و يشرع في القراءة .
أما في الدول النامية فيحدث العكس ، لدرجة قد تصل إلى اعتبار المحافظة على الوقت شذوذاً يستحق التأمل.
مع أن تاريخنا يزخر بنماذج مشرقة في الحفاظ على الوقت ...
فهذا العلامة خليل بن إسحاق يرحل من المغرب إلى مصر لطلب العلم فيمكث بها عشرين سنة ثم يعود إلى بلده و ما ذهب يوماً ليتمتع برؤية نهر النيل .
و هذا المحدث الألباني يأتي بنجار ليعكس فتح باب مكتبته من جهة إلى أخرى ، و لما سئل عن ذلك قال : في الحال الأولى أحتاج إلى خمس خطوات من الباب لأصل إلى المكتب ، وإذا حسبت هذا مع عدد مرات دخولي و خروجي يكلفني ذلك في اليوم ربع ساعة ، أما في الحال الثانية فرجل في الباب و رجل على المكتب .
كل هذا حرصاً على بضع ثوان في كل مرة .
فكيف لو ابتلي الألباني بالعيش مع أنصار" تضييع الوقت " !!
إذا اتفقنا على أهمية وقت الفراغ و خطره ، فلنتقدم خطوة ، و لنعرف ماذا يُقصد بمصطلح " وقت الفراغ " ؟
في الأصل أريد به الوقت الذي ليس له برنامج عمل بالمعنى الواسع لكلمة عمل .
و بما أن الغالب على أوقاتنا اليومية الخلو من أي برنامج عمل فيما عدا الأعمال المفروضة علينا كواجبات الدين ، و العمل ، ونحوها ، سُحِب مصطلح "وقت الفراغ"على الجزء الأكبر من تلك الأوقات .
أما في اللغة فـ "الفراغ " يعني الخلو عن الشغل ، و الشغل هنا بالمعنى العام للكلمة فيدخل فيه كل ما يمكن القيام به من نشاط .
و أبرز ما ينطبق عليه "وقت الفراغ" هو : الفترة القصيرة الفاصلة بين انتهاء برنامج ما و ابتداء آخر ، إذ معنى فرغ من الشيء : انتهى منه أو خلا منه .
و تنطبق أيضاً على أي وقت لا برنامج عمل فيه ، كوقت ما بعد العمل المفروض ، و أوقات الإجازات ، فإذا قصرنا التعريف الاصطلاحي على الشق الأول ،( فقلنا إن " وقت الفراغ " هو: الفترة القصيرة الفاصلة بين برنامج و آخر ) نكون قد خطونا خطوة في تفكيك المشكلة ، إذ (بحسب التعريف) سيتقلص وقت الفراغ ليحصر في المدة القصيرة اللازمة للانتقال من برنامج لآخر .
و تتحول بالتالي كل الأوقات التي لا عمل فيها من مصطلح أوقات فراغ إلى "أوقات بلا برامج" .
و هذا يقربنا ( و لو نظرياً) من الحل ، إذ يستفزنا هذا التعبير لوضع برامج لذلك الوقت الذي لم يعد يسمى وقت فراغ .
و بتغير نظرتنا إلى هذا الوقت يتغير تعاملنا معه ، و نصبح مطالبين من داخلنا بوضع برامج للإفادة منه .
ولا نعني بالإفادة هنا أن تكون حياتنا كلها عمل ، و إنما أن تكون منظمة متناسقة لا يعطل جزءٌ منها ما بعده ، و لا يفسد ما قبله ، و لا يكون تكراراً مملاً لجزءٍ آخر .
فيكون بإمكانك أن تنجز أعمالك ، و تمارس هواياتك ، و تنام ، و تتعلم ما تحب بكل سلاسة.
على أن تنظر فيما بعد في تناسب حجم وقت كل برنامج مع أهميته .
أخيراً
ما ندعو إليه هو التعامل مع الوقت بنظام ، و ما يفعله الكثيرون هو التعامل معه بفوضوية .
و شتان بين ما هو
علامة من علامات النماء ، و ما هو علامة من علامات الكوارث