الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد اندلعت حرب النقاب، وما زالت رحاها دائرة حتى الآن، ولأن أمور الشرع مترابطة، وقضاياه متداخلة، ولأن خطط الأعداء متشعبة، وحفائرها عميقة؛ فقد توسعت حرب النقاب لتشمل كثيرًا من القضايا الأصولية، والتشريعية، والواقعية نجملها على وجه الاختصار في هذا المقال، فأول هذه الحروب:
حرب الحجاب:
نعم لم تقتصر الحرب على النقاب، وإن كان البعض من المنتسبين إلى العلم ممن يرون النقاب غـُلوّا قد قصروا حربهم عليه؛ فإن الكثير من الصحف، والمجلات العلمانية قد رأوا الفرصة سانحة لكي يبثوا سمومهم حول الحجاب ذاته، محاولين زعزعة العقيدة الراسخة حتى لدى المتبرجات أنفسهن في وجوب الحجاب.
وهذا يقتضي وقفتين:
الأولى: من عموم الدعاة والمصلحين، -لا سيما الذين لم ينفعلوا مع الأزمة بالشكل الكافي- أن يتحركوا قبل فوات الأوان، وأن يعلموا أن قائمة التنازلات في قضية المرأة أولها النقاب، وقد لا يكون لباس البحر هو آخرها!!
الثانية: من هؤلاء المشايخ الرافضين للنقاب أن يسارعوا بالتبرؤ ممن ركب الموجة، وهاجم الحجاب، وأظن أنه مهما بلغ من وهمهم في اعتبار النقاب غـُلوًا فلن يبلغ في الخطورة مبلغ إنكار المعلوم من الدين بالضرورة: كـ"الحجاب" من حيث المبدأ، فليشاركوا مع عموم الأمة في التصدي للحملة المسعورة ضد الحجاب، بدلاً من أن يكونوا مشاركين فيها من حيث لا يعلمون.
طائفة القرآنيين:
من المفارقات العجيبة أن منكري حجية السنة من القرآنيين ومن شابههم؛ لم يلجأوا إلى إنكار حجية السنة إلا فرارًا من الأحكام التفصيلية التي في السنة؛ لتبقى نصوص القرآن مجملة فيؤولونها وفق آرائهم وأهوائهم، ولكنهم متى وجدوا في السنة ما يشهد لبعض آرائهم أتوا إليه مذعنين، بل ربما اعتمدوا على غير الثابت، بل الموضوع من السنة.
وهذا ينطبق على كل أعداء السنة عبر التاريخ من: "المعتزلة القدماء" ومن "المعتزلة الجدد"، ومن المفارقات أن يطعن المعتزلة في أحاديث "البخاري" و"مسلم" التي لا تروق لهم؛ لشبهات عقلية سقيمة لو ردوها إلى عالمها لوجدوا لها جوابًا، ثم يستدلون بأحاديث موضوعة في شأن العقل!!.
وفي قضية الحجاب وجد أعداء السنة أنفسهم في حرج...، فظاهر القرآن وجوب ستر الوجه، وهذا ما يفسر ميل معظم المفسرين إلى القول بوجوبه، وأدلة استثناء الوجه عند القائلين باستثنائه هي من السنة.
ذلك أن القرآن قال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [سورة النور: 31]، فنسب إبداء الزينة المنهي عنه إلى النساء، وعند الاستثناء لم يقل: إلا ما أظهرن، ولكن قال: {إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، فدل بدلالة الوضع اللغوي على أنه إلا ما ظهر من تلقاء نفسه كما فسره بذلك "ابن عطية"، وأقره "القرطبي" على ذلك، ثم تعقبه بأن السنة ألحقت الوجه والكفين بما {ظَهَرَ}؛ لكثرة الحاجة إلى "إظهارهما"، واستدل على ذلك بحديث أسماء -رضي الله عنها: «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه» [رواه أبو داود، وصححه الألباني]، ونقل عنهما هذه المساجلة الشيخ "سيد طنطاوي" في تفسيره (الوسيط)!!
كما قال -تعالى-: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [سورة الأحزاب: 59]، فأمر النساء بالإدناء {عَلَيْهِنَّ}، وهذا يشمل إدناء الثوب على بدن المرأة من أعلى إلى أسفل بلا استثناء كما ذكر نحوه أيضًا الشيخ "طنطاوي" في تفسيره!
وقال -تعالى-: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنّ} [سورة النور: 31]، والخمار: غطاء الرأس، والجيب: فتحة الصدر، وإذا ضرب الخمار من الرأس إلى فتحة الجيب ستر الوجه حتمًا.
ولا يُعترض على هذا بأن العرف جرى على إحداث فتحة في الخمار تبرز الوجه؛ فإنما فعل ذلك بناء على مذهب من يرى جواز كشف الوجه، أو فعل تيسيرًا للبسه على أن يُغطى بالنقاب، وهذه الصورة لا يرتضيها بعض القائلين بوجوب ستر الوجه، ويرون لزوم إدناء الجلباب كما أمر الله، وبالتالي يحرِّمون النقاب بهذا الاصطلاح، وقد عمد بعض المغرضين إلى كلام هؤلاء العلماء فرَوَّجه على أنه تحريم لستر الوجه، والواقع أن هؤلاء العلماء يرون وجوب ستر الوجه بالجلباب تحديدًا؛ فهم من أشد القائلين بجوب ستر الوجه.
ومن ثمَّ فقد فر "القرآنيون" في هذه المسالة إلى السنة مستدلين بحديث أسماء، وحديث الفضل بن عباس -رضي الله عنهم-، وبعيدًا عن الخلاف الفقهي في المسألة: كم نتمنى أن يثبت هؤلاء عند تعظيم السنة، والاحتكام إليها!.
ولكن أحد رؤوس "حرب النقاب" والذي جعل من أهم أولوياته تحويل النقاب من "عبادة" إلى "عادة"، والذي يطبع الكتب بمئات الآلاف في ذلك ما زال لا يدري حجج الفريقين؛ فخرج بتصريح يقول فيه: "بيننا وبينهم كتاب الله"!!، ولكنه لم ينتبه إلى أن الاحتكام إلى القرآن هنا دون السنة يجعل ستر الوجه واجبًا قولاً واحدًا.
والجدير بالذكر: أن المتمسكين بالوجوب من أهل العلم رأوا أن الأدلة التي استدل بها القائلون بالاستحباب لا تنتهض لتخصيص القرآن؛ لأن صحيحها غير صريح: كـ"حديث الفضل"، وصريحها غير صحيح: كـ"حديث أسماء"، وأما من صحح حديث أسماء فقطع بالاستحباب، منهم -من المعاصرين-: "الشيخ الألباني" -رحمه الله-.
"العادة" و"العبادة":
وهذه حرب أخرى من الحروب الحاضرة في حرب النقاب... فإن الحرب دائرة؛ لنزع صفة العبادة عن الحجاب، وإدخاله في باب العادات!!.
لماذا... ؟؟!!
لقد حاول الخصوم إخراج النقاب من عِداد الواجبات إلى عِداد المستحبات -وهو قول يقول به بعض أهل العلم-؛ أملاً في أن يدفع ذلك المنتقبات -لا سيما إذا تزامن ذلك مع التضييق عليهن في معظم الدوائر- إلى التراجع عنه، ولكنه ازداد انتشارًا -بحمد الله-، فما كان منهم إلا أن ادّعوا: أنه "عادة لا عبادة"؛ لأن زحزحة العادات باستخدام سلاح التضييق أكثر سهولة من زحزحة العبادات، بل ربما زحزحت العادات بعادات أخرى تناسب العصر.
والواقع أن العلمانيين الذين يسمون أنفسهم زورًا بـ"التنويريين"، ومن يستجيب لإرهابهم من المنتسبين إلى العلم: يعانون ضعفـًا شديدًا في التنظير، وفقرًا شديدًا في الكفاءات؛ فيكتفون باستنساخ المعارك الفكرية القديمة التي خاضها أسلافهم، وهم دائمًا ما يحرصون على استنساخ التجربة بكل تفاصيلها.
وقد جاء المتغربون الأوائل، والحجاب فعلاً -فضلاً عن النقاب- مجرد عادة شرقية انفصلت عن مصدرها الإلهي في حس معظم من يرتدينه؛ اللهم إلا فئة قليلة جدًا ممن رحم الله، ومن ثمَّ سهل عليهم انتزاعه، كما أشار إلى ذلك الأستاذ "محمد قطب" -حفظه الله، وعفا عنه-.
ثم خرجت الصحوة الإسلامية المباركة... وعاد معها الحجاب؛ "حجاب العبادة" لا "حجاب العادة"، ومن ثمَّ صمد هذا الحجاب أمام كل الهجمات -بفضل الله تعالى-، مما اضطر الأعداء إلى استخدام هذا "الخطاب الفرعوني" الممتد عبر الأزمان: {إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ﴿٥٤﴾ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} [سورة الشعراء: 54-55]، وظل الأعداء يرددون: أن الالتزام بالدين -والنقاب من أشد مظاهره- أنه شعار لطائفة محدودة من المتطرفين! أظنهم لولا الحرج لقالوا: "يعدون على أصابع اليد الواحدة"!!
ولكن حدث تطور قلب حسابات العلمانيين، والإسلاميين على حد سواء... حيث اتسع مستوى قبول سماع الخطاب الدعوي الإسلامي بدرجة كبيرة تزامن معها التزام ببعض الأمور التي كانت حتى وقت قريب حكرًا على الإسلاميين، منها: "النقاب"، ووجدت شرائح من المجتمع تلتزم ببعض ما يلتزم به الإسلاميون، ولا تلتزم بالبعض الآخر؛ لعدم الاقتناع، أو لعدم وجود العزيمة الكافية.
وذلك ما رصدته إحدى تلك المجلات المحاربة للنقاب؛ من أن كثيرًا من المنتقبات حديثـًا: ما زلن يشاهدن التلفاز، ويسمعن الأغاني، وهو ما فسروه على أن النقاب المنتشر الآن هو بالفعل عند أصحابه عادة لا عبادة، وهذا التفسير منهم محاولة لطمأنة النفس، وإلا لو كان الأمر كذلك ما قاموا بكل هذه الجهود؛ لإثبات أنه عادة -لو كان هو بالفعل كذلك عند من تفعله-!.
والتوصيف الصحيح للأمر: أنه عند بعض المنتقبات الجدد عبادة عرفنها، واستطعن مع شيوعها مقاومة شياطين الإنس والجن في الالتزام بها. في ذات الوقت الذي توجد فيه عدد من المخالفات في سلوك صاحبته لم تبلغ عزيمتها بعد للدرجة التي تتغلب بها عليها، وهو ما أغرى هؤلاء بعمل هذه الحملة؛ لأن من كانت عزيمتها كذلك لو اقتنعت بأنه عادة لا يمكنها أن تثبت ولو قليلاً.
إن المعركة الآن في إثبات أن النقاب عبادة، وفي أن يبقى هذا المعنى ماثلاً في ذهن من ترتديه بحيث لا يتحول من جرَّاء تلك الحملات -وبفعل العادة والإلف لا سيما إذا كان مقترنـًا بمخالفات شرعية أخرى- إلى عادة؛ لأنه متى تحول إلى عادة سهل القضاء عليه، ومتى قضي عليه فسوف يستمر الأمر من سيء إلى أسوأ -نسأل الله العافية-.
الأغلبية الصامتة:
وهذه الحرب هي مظهر من مظاهر الحالة الفكرية في مصر منذ "عهد التغريب" الذي يسمونه بـ"عصر النهضة" إلى يومنا هذا "أقلية إسلامية"، و"أقلية علمانية" تتنازع على "أغلبية صامتة"، وكان هذا هو التوصيف يوم أن كان الإعلام إعلامًا مغلقـًا؛ فلما اتسعت الدنيا، وفُتِح الإعلام، مع أن ما يملكه الإسلاميون منه لا يبلغ عشر معشار ما يملكه العلمانيون، ومع أن العلمانيين يستخدمون سلاح الشهوات، والإسلاميون يسبحون ضد تيار الشهوات؛ إلا أن المحصلة تقول: إن الأغلبية ليست صامتة، وأنها مع الدعوة إلى الإسلام، والعمل بالإسلام، وأن من أجَّل منهم العمل بشيء من التشريعات الإسلامية؛ فإنه يتمنى أن يأتيَ اليوم الذي يزاح فيه "كابوس التغريبيين" الذين يجعلون من هذه المخالفات أمرًا واقعًا، فيصعب على كثير من المسلمين مقاومته.
فينبغي على الإسلاميين أن يدركوا خطورة المعركة، وأن يقدروا لها قدرها، وأن يصبروا على صور الالتزام المنقوص التي تتنامى في المجتمع شيئًا فشيئًا حتى لا يُترك الناس فريسة لـ"ذئاب العلمانية"، ولا نعني بهذا اتباع منهج: "الفتوى بالرخص" التي ليس عليها دليل، كما يلجأ إلى ذلك بعض الدعاة، بل ها هو الواقع يثبت أن الصبر على بيان الحق بالدليل، مع الصبر والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ يؤتي أكله بعد حين -بإذن الله-.
فقه الأولويات:
من المسائل التي أخذت حظـًا كبيرًا من الأخذ والرد بين الإسلاميين ما اصطُلِح على تسميته بـ"فقه الأولويات"، ورغم الاتفاق النظري على القاعدة: "إذا تعارضت مصلحتان قدمت أولاهما وإذا تعارضت مفسدتان دفعت أكبرهما"؛ إلا أن الخلاف بيننا، وبين إخواننا في الاتجاهات الأخرى لا سيما "الإخوان المسلمون" كان حول التوسع في مفهوم التعارض؛ فكانوا يرون مجرد وجود أزمات في المسجد الأقصى كافٍ للنهي والزجر عن تعلم العلم وتعليمه!!، وربما تأثروا في ذلك بالشيخ الغزالي -رحمه الله- الذي بالغ في هذا الأمر حتى سمى من ينشغل بتعلم الفقه بـ"فقهاء الطهارة، والحيض، والنفاس"!!، وكأن الفقه ليس فيه إلا هذه الأبواب مع أهميتها.
وها هي الأمة تخوض معارك كثيرة، منها: فقهي احتاج فيه آحاد الدعاة إلى "فقه الحجاب" و"فقه الربا"، بل و"فقه الحيض والنفاس" نفسه؛ ليس للتعبد لله بأحكامهما فحسب -وهو واجب كما أسلفنا- بل للدفاع عن الإسلام.
فمن الشبهات التي يثيرها دعاة التنصير: الطعن على النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه كان يباشر عائشة -رضي الله عنها- وهي حائض مخالفة للأمر القرآني: {فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ} [سورة البقرة: 222]، زاعمين أن المباشرة هنا بمعنى الجماع، وهو أمر لا يُحسِن جوابه إلا من درس: "فقه الحيض، والنفاس"؛ حتى يعلم أن هذه مباشرة بدون جماع، كما دلت على ذلك الأدلة التفصيلية، وحتى يزيد على ذلك أن هذا من وسطية الإسلام، بعيدًا عن غـُلو اليهود الذين يعتقدون نجاسة الحائض؛ فلا يؤاكلونها ولا يشاربونها، وهي أحكام ما زالت مدونة في "العهد القديم"، أي ما زال النصارى إلى اليوم يعتقدون أنها نزلت من عند الله، وإن كانوا يعتقدون أن "بولس" وليس الله، ولا عيسى -عليه السلام- قد نسخها لهم؛ فصاروا لا يتورعون عن إتيان الحائض والنفساء!!، والنبي -صلى الله عليه وسلم- إنما بعث بالحنيفية السمحة، وبالوسط بين إفراط اليهود، وتفريط النصارى.
وبالتالي كان من المواقف المحمودة أن تأخذ "جماعة الإخوان" موقفـًا في قضية النقاب رغم أحداث المسجد الأقصى، ورغم الأحداث التي تشهدها الجماعة، ولكن لابد من تسجيل كلمة للتاريخ؛ لأن الأحداث تمضي، والمواقف تنسى فنقول:
إنه وأثناء تعرض المسجد الأقصى لهجمة صهيونية، وتعرض النقاب، بل الحجاب لحملة داخلية انشغل "مكتب الإرشاد" أعلى هيئة في جماعة الإخوان، باختلاف حامي الوطيس تناثرت أخباره في الصحف والفضائيات حول تفسير "لائحة" جماعة الإخوان في أحقية الدكتور "عصام العريان" في التصعيد لمكتب الإرشاد خلفـًا للأستاذ "محمد هلال" -رحمه الله- بصفته حاصل على أعلى الأصوات بعد الحاصلين على عضوية المكتب في الانتخابات الماضية، أم تنتظر الانتخابات القادمة؟!
وهي مسألة تبدو لكل من ينظر إلى الأمور من خارج الصف مسألة "شكلية"، "فرعية"، "هامشية"، "لا تفسد للود قضية"!!، لا سيما وأن الانتخابات القادمة لم يبقَ على موعدها إلا شهران، ومع ذلك اهتم بها مكتب الإرشاد، وناقشها عدة مرات، ولن نعرِّج على ما قالته صحف غير إخوانية حول استقالة المرشد، أو إجباره على الاستقالة، بل ما صدر عن الإخوان وحده كاف في إثبات أن الخطوب الجليلة التي تحيق بالأمة لم تمنعهم من محاولة تطبيق اللائحة حرفيًا، والانشغال بتفسيرها، والأخذ والرد حولها، مع تمسك كل فريق بما رآه "صحيحًا" في تفسير اللائحة، وعدم التنازل عن اجتهاده لاجتهاد غيره -ولو كان المرشد-، وهو ما يستكثرونه في كثير من الأحيان على الدراسات الشرعية مطالبين كل الناس الذين لا يرتبطون معهم بعهد ولا ميثاق، ولا تنظيم: بالتنازل عن مواقفهم واجتهاداتهم، والتي تتبنى في كثير من الأحيان: "الأيسر" من وجهة نظرهم لا "الأصوب"، كما فعلوا مع اللائحة الإخوانية.
بل أعجب من ذلك أن الشيخ "القرضاوي" لم يعبه القرار الذي انتهى إليه المجلس بعدم تصعيد الدكتور "عصام العريان"، فأدلى بتصريحات حادة مما اضطر الدكتور "غزلان" إلى أن يكتب ردًا علنيًا عليه ذكَّره فيه ببعض الأمور الشرعية، ورغم أن الرد اتسم بالأدب الجم، إلا أن كثيرًا من الإخوان كانوا ينتقدون علينا تعقب الشيخ "القرضاوي" بنفس الأدب في قضايا هي أكثر خطورة من قضية تصعيد الدكتور "عصام العريان" بكثير؛ بدعوى أنه لا يرد على "القرضاوي" إلا من كان في علم "القرضاوي"، ويضيفون إليها: وطالما أنه غير موجود، فلا يرد على "القرضاوي" إلا "القرضاوي"، وها هو من يستكثر على نفسه أن يكون تلميذًا لـ"لقرضاوي" يرد عليه.
هذا مع أننا لو كنا نملك أن ننصح ونشير لأشرنا، ونصحنا بتقديم من يسمونه الآن: بـ"التيار المحافظ"؛ لكونه أقرب إلى المنهج الإسلامي الصحيح، بل وأقرب إلى منهج الأستاذ "البنا" نفسه، رغم أن رموز التيار الذي يسمونه: بـ"المنفتح" كان كثيرًا منهم من رموز تيار أشد محافظة في السبعينات، والذي مثلته الجماعة الإسلامية في الجامعات المصرية.
معركة الحرية الشخصية للمنقبات:
لقد كشفت معركة النقاب عن أن العلمانيين رغم تشدقهم بـ"الحرية الشخصية" إلا أنهم عند المحك العملي يتضح أنهم لا يعنون بها إلا حرية مخالفة الشرع كفرًا كان، أو بدعة، أو فسقـًا، وأنهم في سبيل حرب التدين من الممكن أن يكفروا بما "يدندنون" حوله من حريات، ذلك أن كثيرًا من الدعاة يوجِّه خطابه لعموم الأمة بالالتزام بالتكاليف الشرعية شاء الناس أم أبوا، ثم يوجه خطابه لمن يأبى النقاب، أو غيره بأن أصوله القائمة على احترام الحرية الشخصية تقتضي ترك كل إنسان وما يعتقد، إلا إن هذا لا يزيد كثيرًا من العلمانيين إلا عنادًا، و بيان ذلك: أنه ما من فعل ممكن حدوثه من الإنسان إلا وللشرع فيه حكم: إما طلب الفعل، وإما طلب الكف، وإما الإباحة، وطلب الفعل، وطلب الكف كلاهما ينقسم إلى: لازم وغير لازم.
والشرع يلزم ولي الأمر بالدعوة إلى المطلوب فعله، والإلزام باللازم منه، وإيقاع العقوبات المقدرة شرعًا على تاركها فيما فيه عقوبة، كما يُلزمه بالنهي عن المطلوب تركه مع الإلزام باللازم من ذلك، وإيقاع العقوبات الشرعية المقدرة شرعًا فيما شرعت فيه عقوبة.
والنظام العلماني القائم على فصل الدين عن الدولة المسمى تجملاً: بـ"المدني"، لديه أيضًا حكم لكل فعل يمكن أن يصدر من أي مواطن، بين طلب الفعل، أو طلب الكف، أو الإباحة؛ بيد أن الطلب دائمًا ما يكون لازمًا بحُكْم دنيوية العلاقة في النظام العلماني.
ثم إن من المبادئ الأساسية التي تقوم عليها فلسفة الدول المدنية المبالغة في رعاية الحريات عن طريق توسيع دائرة الإباحة، بحيث تنحصر دائرة المحرمات فيما يضر الغير مع ترددهم في منع ما يضر النفس، ولكنهم في ذلك كله لا يعيرون التحريم الديني، -حتى فيما يتعلق بدين الأغلبية- أي أهمية! كما أنهم يضيقون دائرة الوجوب، بحيث تنحصر في علاقة المواطن بدولته دون النظر إلى الواجبات الدينية.
والنظام العلماني يترك مسألة الالتزام بالواجبات الدينية، والامتناع عن المحرمات الدينية للضمير الشخصي للإنسان، ولكنهم ينصون على: لزوم تجنب التشريع العام في الدولة لإجبار أي فئة دينية، أو عرقية على فعل ما هو محرم عندهم، أو أن يعوق النظام العام أي طائفة من أداء عبادة، أو طقس اجتماعي محترم عندهم.
ومسؤولية الملائمة بين القوانين العامة، وبين التوجهات الدينية والاجتماعية لأي طائفة من الناس مسئولية أصلية للنظام التشريعي والتنفيذي.
والخلاصة:
إن وجود طائفة تحرص على النقاب سواء أكانت هذه الطائفة تراه: "عبادة" أو "عادة اجتماعية مستحسنة" يلزم النظام حتى لو كان هناك من يراه بخلاف ذلك أن يلائم بين معتقدات هذه الطائفة وبين متطلباته؛ لحفظ النظام، والتي تكاد تنحصر في ضرورة الكشف عن شخصية المنقبة عند التعامل الرسمي، ويلزم والحالة هذه توفير امرأة تتولى هذا الأمر احترامًا للحرية الشخصية للمنقبات.
فحصل من ذلك أن النقاب "عبادة" مطلوب فعلها -"وجوبًا عند بعض العلماء، واستحبابًا عند البعض الآخر"- شرعًا، حرية محترمة قانونـًا.
ومع ذلك ما زالت المتبرجة الآثمة شرعًا، المهيجة لشهوات الشباب -"وهو ضرر كان ينبغي أن يعتبر قانونـًا"- تروح وتجيء، والمنتقبة فقط هي التي تلام حتى في المؤسسة الدينية نفسها "الأزهر"!! فهل أبقى النقاب للقوم من حجة يتسترون بها؟؟!!
وأخيرًا:
معركة "عودة الحجاب":
(عودة الحجاب) لفضيلة الشيخ "محمد إسماعيل" -حفظه الله- موسوعة علمية شاملة حول المرأة المسلمة أغنت -كما ذكر الشيخ "أسامة حافظ" في مقال له نشر بموقع: "المصريين"، وموقع: "الجماعة الإسلامية"- كل أبناء الصحوة على اختلاف فصائلهم عن كثير من كتب رموز الصحوة القدامى: كـ"حسن البنا"، و"الألباني"، و"البوطي"، ويرجع ذلك كما أشار إلى ذلك الأستاذ "جمال سلطان" في مقال له على موقع: "المصريين" إلى أنها عالجت كل جزئيات المسألة.
فعلى المسار التاريخي: عرّت دعاة التغريب عمومًا، ودعاة تحرير المرأة خصوصًا.
وعلى المسار الفقهي: نسفت أسطورة "الشباب الطائش الذي يقرأ كتابين ثم يفتي منهما"، وهي تهمة كانت في أوجها زمان ظهور الطبعة الأولى للكتاب، وإن كان ما زال بعض "الببغاوات" يرددها حتى الآن.
وعلى مسار ثالث: عالجت قضية المرأة ككل، وأبرزت المنهج الإسلامي الشامل في التعامل مع المرأة مُقارنـًا بالجاهليات: القديمة، والحديثة، ولهذه الأسباب مجتمعة يشعر خصوم الحجاب دائمًا أنهم في خصومة مع هذا الكتاب بالذات، وبالتالي كان لكل معركة ضد "عودة الحجاب"، أو "النقاب" معركة جانبية مع كتاب: "عودة الحجاب".
وكما يخرج "الحجاب" من كل معركة أكثر انتشارًا -بحمد الله-، يخرج كتاب: (عودة الحجاب) من كل معركة أكثر انتشارًا، وفي هذه الأزمة الأخيرة تم نشر "نسخ إلكترونية" منه في العديد من المواقع؛ حتى الغير المهتمة بالشأن الإسلامي!!، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.