إن الحديث إلى الشباب حديثٌ ماتع جيد؛ ذلك أنه حديثٌ إلى أغلى ما تملِكُه الأمَّة، وأعزِّ ما تؤمِّلُه في حاضرها ومستقبلها؛ لذلك جئتُ هنا من فوق منبر من منابر الشباب أتحدَّث إليهم؛ لأستمتعَ من جانبي بحديثي إلى الشباب، وأُريد في المقابل أن يستمتعَ الشبابُ بحديثي إليهم، أُريد أن أقول لشبابنا الناهض: إنك تختلف عن كلِّ شباب غيرِك؛ من حيثُ الانتماءُ إلى هذه الأمة، التي اختارها الله؛ لتكون خيرَ الأمم، أمة القيادة والسيادة والريادة؛ مما يجعلك مطالبًا بأن تكون على مستوى شرف، ذلك الانتماء خلقًا وسلوكًا وتعاملاً واهتمامًا، نريد أن تكون الشَّابَّ الرائد القائد في محافظتك على شرف ذلك الانتماء واعتزازك به وحرصك عليه، ونريد أن تُترجِم ذلك إلى واقعٍ عمليٍّ مشهود، تُبرهن به على وعيك لدورك في هذه الحياة، ذلك الدور الذي تستمده من ذلك الانتماء لهذه الأمة المختارة؛ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
يا شبابَ أمتي:
إن القيادة والسيادة التي أشرتُ إليها تتطلَّب تضحياتٍ جِسامًا، وتستدعي أعمالاً عِظامًا، ولم تبلْغها أمتُنا في ماضي أيامها إلاَّ بتقديم تلك التضحيات، وتحقيق تلك الأعمال؛ فلقد تسابق شبابها الممتلىء حماسًا لدينه وعقيدته إلى ميادين الشرف والجهاد، وكلٌّ منهم يريد أن يفوز بقصب السبق في هذا المضمار.
سلوا التاريخ عن شابٍّ اختاره قائدُ هذه الأمة ونبيُّها - صلَّى الله عليه وسلَّم - لقيادة جيش كان يريد تسييرَه لأرض الشام: مَن يكون؟ وكم كان عمرُه يوم ذاك؟ يُجبُكم التاريخ: بأن اسمه "أسامة بن زيد بن حارثه"، وأنَّ عمرَه يومها "سبعةَ عَشَرَ عامًا" ليس غير.
وسلوا التاريخ أيضًا: مَن اللَّذان انقضَّا كالصقرين على عدوِّ الله أبى جهل في غزوة بدر الكبرى فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه؟ يُجبكم التاريخ: إنهما ابنا عفراء: عوف بن الحارث الخزرجي الأنصاري، ومعوذ بن الحارث الخزرجي الأنصاري من شباب الصدر الأول.
وسلوا التاريخ عن فاتح السند؟ يجبكم: إنه محمدُ بن ُالقاسم الثَّقفيّ، من شباب هذه الأمة الأماجد.
وسلوا التاريخ - مرة أخرى - عن فاتح القسطنطينية ومدوخ الروم بعد أن كاد المسلمون ييأسون من فتحها؟ يجبكم: إنه ذلك الفتى البطل الشجاع، الذي أصبح "الفتح" له لقبًا حتى لا يكاد يعرف إلاَّ بـ"محمد الفاتح".
وهكذا لو مضينا نسأل التاريخ، ونستنطقه عن بطولات شباب الإسلام في الماضي، لأجابَنا بالكثير الكثير عنهم، فلْيصَلْ شباب الإسلام اليوم ما انقطع من سلسلة تلك البطولة الخارقة، فما أحوج المسلمين في كل مكان إلى نصر شباب الإسلام وعونهم ومساندتهم! بل ما أشبه الليلةَ بالبارحة! فها هي أمم الكفر مجتمعةً تَكيد للإسلام وأهلِه، وتذيق الملايين منهم صنوف العذاب وتَسُومُهم الخسف ليلَ نهار.
إن من أوجب الواجبات أن يصنع الشبابُ المسلم اليومَ نفسَه صناعةً جديدةً، وأن يصوغ حياتَه صياغةً مُثْلَى، تقوم على الفهم الكامل لدوره المتميز في هذه الحياة، وعلى الوعي التام بمقتضيات هذا الفهم، وعلى الإدراك الواضح للرسالة التي يتحمَّل أمانة أدائها، رسالة نشر هذا الدين وإبلاغه إلى كل ذي أذن.
إن شبابنا المسلم المعاصر مطالبٌ بأنْ يُكِبَّ على كتاب ربِّه وسنة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - تعلُّمًا وتعليمًا وفهمًا وتطبيقًا، وأن يُثقِّف نفسَه مع ذلك بما يجعله أهلاً لفهم ما يدور حوله، وإدراك ما يراد له، أَجَل نريد جيلاً قارئًا مدركًا لما حوله يَلتهِم الثقافة التهامًا، ويسعى إليها حثيثًا، ويُضيف إلى ثقافته كلَّ يوم جديدًا، ويعمل على تنويع مصادر ثقافته وقراءاته كعمله على تنويع مصادر دخله، بل أكثر؛ فالثقافة والعلم والأدب هي حِلْيةُ الشباب الحقيقية وزينتهم الباقية ما بقوا.
إن الثقافة - بمفهومها الواسع الذي يدخل فيه أول ما يدخل العلم - هي مقياس تقدُّم الأمم الحقيقيِّ، والسعي في مضاميرها هو السعي الأنجح والأربح، والشباب هم عُدَّة المستقبل، وعماد الأمة؛ فلا بُدَّ من تسلُّحِهم بالعلم والأدب والثقافة؛ لأنهم المُمْسكون بالزمام في قادم الأيام؛ فيجب أن يكونوا على مستوى القيادة والريادة، علمًا وأدبًا، وثقافةً ووعيًا.
وإن من أشدِّ الظواهر إيلامًا ظاهرةَ ضعف إقبال شبابنا على القراءة، حتى لقد أصبحت تلك الظاهرة السيئة مشكلةً قائمة في كثير من الأوساط الشبابية - وخاصة في الوسط الرياضي - وهي مشكلةٌ لها آثارُها الواضحة نقصًا في الثقافة، وضحالةً في الفكر، وانعدامًا في الوزن.
ولذلك؛ وقفتْ عجلةُ الثقافة حيثُ هي دون أن تتقدم؛ لأن الشباب - في معظمهم - مُحْجِمون عن دفع تلك العجلة إلى الأمام.
بل إن من الشباب لصِنْفًا لا يعتني بالوقت، ولا يحافظُ عليه، ولا يكتَرِثُ لضياعه سدى، إن المرء ليبلغُ به التأثر مبلَغَه، وهو يرى بعضَ شباب أمَّته الإسلامية العظيمة غارقًا فيما يضرُّ ولا ينفع، لا يهتم بوقته، ولا يحافظ عليه، ولا يستثمره الاستثمار الأمثل، وما عَلِم أولئك الشباب المفرطون أن الوقت هو إكسير الحياة، وأن العمر إنما هو هذه الأيام والليالي، ومن ثَمَّ هذه الأسابيع والشهور التي تتكون منها الأعوام.
فليس من المستساغ ولا المقبول أبدًا أن يَنحَرَ بعضُ الشباب وقتَه على مذبح اللامبالاة، وليس معقولاً أن يهدر الشباب أعظمَ ثروة يملكها، وهي عمره وحياته فيُبدِّدُها بلا أدنى اكتراث ويضيعها في غير ما فائدة.
ولست متجنيًا على بعض الشباب حين أؤكد هذه الحقيقة، فكلُّنا قد سمع من أولئك البعض الذين أعنيهم مقولةَ: (تعال يا أخي نضيع الوقت)، يقولها بعضهم لصديقه هكذا بعفوية، وبلا تفكير، وكأنه يقول كلامًا عاديًّا لا يُلامُ ولا يؤاخذ عليه، مع أنه في حقيقة الأمر يقول كلامًا خطيراً يجب أن يحاسب عليه، وأن يفهم أن معنى إضاعة الوقت قتل الحياة وإبقاء مضيع الوقت نفسه في مكانها دون تقدُّم، وبالتالي إبقاء الأمة من ورائه في مكانها متخلفة جاهلة لا قيمة لها ولا كيان.
يجب أن يفهم أولئك البعض من شبابنا ممن لا يدركون أهمية الوقت، ولا يعرفون قيمته أنهم بصنيعهم ذاك إنما يُسيئُون إلى أنفسهم قبل كلِّ شيء، ثم إلى أمَّتهم التي كانت تؤمِّل منهم أن يكونوا نجومًا زاهرةً في سماء المجد، كما فعل أسلافُهم الذين مضوا بأجسادهم، وبقيت آثارهم العظيمة خالدةً على مرِّ الأيام قد سطَّرها التاريخ بمدادٍ من ذهب، تحكي للأجيال عظمةَ أولئك الشباب وعظمة ذلك الدين الذي ربَّاهم وصنعهم.
كما أن هذه المدنية التي نشاهدها ونعيشها اليوم هي نتاج سواعد شبابٍ أدرك قيمةَ الوقت، فاستثمره فيما يعود عليه وعلى أمَّته بالربح الوفير والتقدم الكبير.
إنها مخترعات لم يحقِّقْها إلا الجدُّ والعمل الدؤوب، واقتناص الفرص واستثمار الأوقات، فسلوا الأمم المعاصرة - من أمريكان وروس، وألمان ويابانيين، وغيرهم كثير -: ما سبب تقدُّمها العلميّ والصناعيِّ؟ تجبكم جميعًا: بأن سبب ذلك شباب لا يبارح المعامل والمختبرات، يجود بوقته على أمته في عملٍ شِبْه متواصل؛ ليُحقِّقَ لها - عن طريق ذلك العمل - الرفعةَ والسمعة الحسنة، والسبق والأفضلية في مَيدان السباق التقني العالمي، في عالم لاهث راكض لا يعترف بالنائمين أو المضيعين للأوقات.
ولا يتعجَّلنَّ متعجل فيقول: وكيف ذاك ونحن نقرأ ونسمع عن شباب تلك الأمم أنهم غارقون في الشهوات، منحلون تافهون؟ فإنني بما ذكرته عنهم لا أُزكِّيهم ولا أدَفع عنهم تلك التُّهمَ جميعًا، ولكنني أُقدِّم النموذج المشرق من شبابهم.
ذلك النموذج الذي ترى آثار حفظه لوقته وعنايته بشأن أمته رأيَ العين؛ صناعة متقدمة وسلعًا مختلفة من كلِّ نوع في المشارق والمغارب، أما ذلك الصنف اللاهي العابث من شبابهم فلا يعنينا، والمقام مقام استشهاد بالجاد لا بالعابث.
وكنت أريد أن أقول لشبابنا - هنا في بلادنا وفي بلاد العرب بل في كل أرض إسلامية -: كونوا شبابًا عاملاً جادًّا، مثقفًا واعيًا مدركًا لدوره العظيم في هذه الحياة، واقتدوا بالشباب الجادِّ العامل المثابر من شباب أمتكم أولاً، ومن شباب غير أمتكم ثانيًا.
ولقائل أن يقول: إننا أمة ٌذاتُ تاريخ حافل، وحضارة عريقة، وأمجاد زاهية، فلسنا بحاجة إلى أن نستشهد بما يصنعه شبابُ الغرب أو الشرق؛ إذ إن لنا في ما صنعه شباب أمتنا المسلمة العظيمة غنىً وكفاية، فما صنعه سلفُ شباب الإسلام شيءٌ كبير؛ فقد فتحوا الفتوح، وقادوا الجيوش، ومصَّروا الأمصار، وساهموا في نشر دين الله في الأرض، فكانوا هداةً منقذين للبشرية، وأعظِمْ بذلك من دور يقوم به شباب في عمر الزهور، وما أروعَها من تضحية حين يقدم الواحد منهم نفسه في سبيل الله!
وهو الدور الذي يجب أن يعيه شبابنا المسلم اليوم فيجددوا فينا ذكرى أسامة بن زيد، ومصعب بن عمير، وعمير بن الحمام، وابني عفراء، وسواهم من شباب الإسلام العظماء.
وإني لأشدُّ على يدِ هذا القائل مؤكِّدًا قولَه هذا: بأن شباب أمة الإسلام يختلف عن شباب أيِّ أمة أخرى، فهو شباب الأمة المستخلَفة الشهيدة على الأمم المنقذة لها؛ فواجبه أكبر، والعبء عليه أثقل، ومسؤوليته أعظم؛ فيجب عليه أن يكون على مستوى تلك المسؤولية، وأن يكون جديرًا بتلك الأمانة العظيمة التي تحمَّلها، فيطرح الكسل، وينفض عنه الغبار، ولا يعمد لإضاعة الوقت، وأن يستشعر مسؤوليته تُجاه غيره من الأمم والشعوب، فلا وقت للعبث، ولا مجال للتراخي، والأمر لا يقبل التردد، وهو قدر هذه الأمة أن تكون القائدة الرائدة، والرائد لا يكذب أهله.