عباد الله:
ما خلقَ اللهُ السمواتِ والأرضَ، وما أُنزلتِ الكتبُ، ولا أرسلتِ الرسلُ، وما انقسمت الخليقةُ إلى سعداءَ وأشقياءَ، وما قامتِ الحدودُ، وما شُرعتِ الشرائعُ، وما قامَ سوقُ الجنَّةِ والنارِ - إلاَّ لأمرٍ عظيمٍٍ، جعلَه المولى سبحانه حقًّا له على عبيده، أمَرَهم بأدائه ووفائه.
أيها المسلمون:
إنَّ حقَّ الله على عبادِه، والغايةَ العظمى مِن خَلْقهم وإيجادِهم هو توحيدُ الله - جلَّ جلالُه - قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فالتوحيدُ هو الأصلُ العظيمُ الذي دَعتْ إليه الرسلُ جميعًا، فلم يأتِ نبيٌّ من الأنبياءِ إلا وأمر قومَه بإخلاص التوحيد لله، ونهاهم عن أن يشركوا معه غيره؛ {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
عباد الله:
التوحيد هو الأساسُ الذي تُبنَى عليه جميعُ الأعمالِ، فلا يَقبلُ اللهُ عملاً إلاَّ به، ويغفرُ لِمَن أتى به - إن شاء - وبدونِ تحقُّق التوحيد لا تصحُّ جميعُ الأعمال؛ لأنَّه ليس ثمةَ إلاَّ توحيدٌ أو شركٌ، وإذا لم يحصلِ التوحيدُ حصلَ نقيضه، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
أيها المسلمون:
ليس التوحيدُ كلمةً يتلفَّظ بها المرءُ دونَ معرفةٍ منه بمعناها، وعملٍ بمقتضاها، وسلامةٍ ممَّا يُنافيها ويناقضُها، وإلاَّ لنفعت تلك الكلمةُ المنافقينَ الذين يتلفَّظونَ بها ليلَ نهارَ، ولكنَّها لا تزنُ عندَ الله شيئًا؛ لأنَّهم كاذبون في قولها، مخالفون لمعناها ومقتضاها، واقعونَ فيما يناقضُها.
قيل للحسن البصري - رحمه الله -: إنَّ ناسًا يقولون: مَن قال: لا إله إلا اللهُ، دخلَ الجنة، فقال: مَن قالَها، وأدَّى حقَّها وفرْضَها، دخل الجنة، وقال وهبُ بن قتيبة - رحمه الله - لِمَن قال له: أليسَ مِفتاحُ الجنةِ: لا إله إلا اللهُ، قال: بلى، ولكن ما مِن مِفتاحٍ إلاَّ وله أسْنان، فإن جئت بمفتاحٍ له أسنان فُتِح لك، وإلاَّ لن يُفتح لك.
عباد الله:
إنَّ التوحيدَ الحقَّ هو إفرادُ الله - تعالى - بما يختصُّ به من الربوبية والألوهيةِ والأسماءِ والصفاتِ، هو أن يشهدَ الموحِّدُ قيوميةَ الربِّ تعالى فوقَ عرشه، وأنَّه سبحانه يُدبِّرُ أمر عبادِه وحدَه، فلا خالق ولا رازقَ، ولا معطيَ ولا مانعَ، ولا مميتَ ولا محيي، ولا مدبِّر لأمر الملْكِ ظاهرًا وباطنًا - غيره، فما شاءَ كانَ، وما لم يشأْ لم يكن، لا تتحرَّك ذرةٌ إلاَّ بإذنه، ولا يجري حادثٌ إلا بمشيئته، ولا تسقطُ ورقةٌ إلاَّ بعلمِهِ، ولا يعزبُ عنهُ مثقالُ ذرةٍ في السماواتِ ولا في الأرضِ، ولا أصغرُ من ذلك ولا أكبرُ إلاَّ أحصاها عِلمُه، وأحاطت بها قدرتُه، ونفذت بها مشيئتُه، واقتضتها حِكمتُه.
أيها المسلمون:
لقد قسم العلماءُ التوحيدَ إلى ثلاثة أقسام:
فالقسمُ الأول: توحيدُ الربوبية: وهو أن يُفرِدَ العبدُ ربَّه بالخلقِ والملْكِ والتدبيرِ، بأن يعتقد أنه لا خالقَ إلاَّ الله، ولا يملكُ الخلقَ إلا الله، ولا مدبِّر لأمر البشريةِ إلاَّ اللهُ وحدَه لا شريك له، وهذا القسمُ مِنَ التوحيدِ لم يُعارِض فيه المشركون الذين بُعِثَ فيهم الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بل كانوا مقرِّينَ به؛ قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9]، ومع ذلك لم ينفعْهُم إقرارُهم، ولم يُدخلْهم في الإسلامِ؛ لأنَّهم اتخذوا من دونِ الله آلهةً أخرى؛ قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18].
عباد الله:
أما القسم الثاني من أقسام التوحيد فهو توحيدُ الأسماءِ والصفاتِ: وهو أن نُثبت للهِ - عزَّ وجلَّ - جميعَ أسمائه وصفاتِه التي أثبتها لنفسه في كتابهِ أو سُنَّة نبيه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا نجعلُ لله مثيلاً في أسمائه وصفاته؛ كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وقال جلَّ شأنُه: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180].
أيها المسلمون:
أما القسمُ الثالثُ من أقسام التوحيد فهو توحيدُ الألوهية: وهو أن نفرِد الله تعالى بجميعِ أنواعِ العبادةِ، فلا يعبد غيرهُ ولا يدعى سواه، ولا يستغاثُ ولا يستعانُ إلا به، ولا ينذرُ ولا يذبحُ ولا ينحر إلا له؛ كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]، وهذا القسمُ - عباد الله - كَفرَ به وجحدهُ أكثرُ الخلق، ومِن أجل ذلك أرسلَ اللهُ الرسلَ، وأنزلَ عليهمُ الكتبَ؛ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
أيها المسلمون:
إنَّ معرفةَ التوحيدِ والتمسُّكَ به، ومعرفةَ الشِّرْك والحذرَ منه، مصلحتُها راجعةٌ إلى العبدِ لا إلى غيره، وهو المنتفعُ بالتوحيدِ كما أنَّه المتضررُ من الشِّرْك؛ قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8]، وقال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7].
عباد الله:
إنَّ مَن أتقن أنواعَ التوحيدِ الثلاثة وحَفِظها، واستقام على معناها - علم أنَّ اللهَ هو الواحدُ حقًّا، وأنه هو المستحقُّ للعبادةِ من جميع خلْقه، ومَن ضيَّعَ واحدًا منها أضاعَها جميعًا، فهي متلازمةٌ لا إسلام إلاَّ بها جميعًا، فمَن أنكر صفاتِ الله وأسماءه فلا دِين له، ومَن أقرَّ بتوحيدِ الربوبيةِ والأسماءِ والصفاتِ، ولكن لم يُرِد بها الله وحدَه، بل عَبَدَ معه سواه من المشايخِ أو القبورِ، أو الملائكة أو الأنبياء - فقد أشركَ باللهِ وكَفرَ به، ولا تنفعُه بقيةُ الأقسام، حتى يقرَّ بأن الله هو ربُّه الخالقُ المالكُ لجميع الأمورِ، ويقرَّ بما كفر به المشرِكون، ويؤمنُ بأنَّ اللهَ سبحانه له الأسماءُ الحسنى، والصفاتُ العُلى.
أيها المسلمون:
لقدِ ابتُلي كثيرٌ من الناسِ بالجهلِ بالتوحيد، اندثرتْ عندَهم معالِمُ الحنيفيةِ السَّمْحة، وسَرَتْ فيهم شوائبُ الشرك، وتنازعتْهم الأهواءُ الفاسدةُ التي لوَّثت عقيدةَ التوحيدِ الخالصِ في قلوبهم، وكدَّرت صفاءَ العقيدةِ المشرِقَ في نفوسهم، فصَرَفوا أنواعًا من العبادةِ لغير الله، وألْقوا زمام أعنَّتِهم إلى الشيطان يقودُهم في مناسبةٍ وغير مناسبةٍ إلى أضرحةِ الموتى، يطلبونَ المددَ مِن الأولياء والصالحين، ويَذْبحونَ للقبور، ويُصدِّقونَ السَّحرة، ويلهثونَ وراءَ المشعوِذِين والكَهنةِ، مستصرخِين بهم، يَرْجُون منهم كشفَ البلاء، ورفعَ القضاء؛ {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16].
عباد الله:
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله وكفى، وصلاةٌ وسلامٌ على رسوله الذي اصطفى، وعلى آله وصحْبه ومَن اقْتفى.
أما بعد:
فيا عباد الله:
الأصلُ في الإنسانِ التوحيدُ؛ لأنَّ البشرَ خُلِقوا من نفسٍ واحدة، وهي نفسُ آدم - عليه السلامُ – كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]، وآدمُ - عليه السلام - كان نبيًّا يعبدُ اللهَ وحدَه لا شريكَ له، والناسُ منذُ آدم - عليه السلام - على التوحيدِ عشرةَ قرون، حتى حدثَ الشركُ في قومِ نوحٍ - عليه السلام - فأرسلَه اللهُ إليهم؛ لينذرَهم ويحذِّرهم من الشِّرْك مع الله؛ قال ابنُ تيميةَ - رحمه الله -: ولم يكن الشِّرْك أصلاً في الآدميِّين، بل كان آدمُ ومَن كان على دِينه مِن بنيهِ على التوحيدِ، لاتِّباعهم النبوةَ؛ قال تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} [يونس: 19].
أيها المسلمون:
إنَّ مما يصرفُ الناسَ عن تعلُّمِ التوحيد والاهتمام بهِ: عدمَ معرفتهم لفضله، وحصرَهم للشِّرْك في صور قد لا تكونُ موجودةً في مجتمعهم، كعبادةِ الأوثانِ والأصنامِ، وظنَّهم أنَّ الشِّرك انتهى ببعثة النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأنَّه لن يقع في هذه الأمَّة، وهذا خلافُ ما أخبَر به النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم.
فاتَّقوا الله عباد الله، واعلموا أنَّ وراءَكم جنةً ونارًا، وأنَّ أفضل أعمالِ أهل الجنةِ توحيدُ الله، وأنَّ أشنع أعمالِ أهلِ النارِ الإشراكُ مع الله غيرَه؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن لَقِي الله لا يشركُ به شيئًا دخلَ الجنَّة، ومَن لقي اللهَ يُشركُ به شيئًا دخلَ النار))؛ رواه مسلم.
ثم صلُّوا - رحمكم الله - على الهادي البشير.