هجوم من الغرب على النظام الاقتصادي
القائم على الديون والفوائد
لم أشعر برغبة ملحّة في لقاء مؤلف كتاب قرأته كما شعرت بالنسبة لمؤلف كتاب في الاقتصاد أثار فضولي بقدر ما أثار إعجابي بفكرة ومنطقه وجرأته، ولهذا الشعور قصة لا تخلو من فائدة...
فقد تبين لي منذ فترة – وقد تجاوزت سن الخامسة والستين - أن ثقافتي ما تزال منقوصة في جانبها الاقتصادي، وأن ما أعرفه في هذا المجال ليس كافياً لفهم الكثير مما يجري من حولنا من أحداث اقتصادية، كما تبين لي أيضاً أن البيانات الرسمية المتعلقة بالمال والاقتصاد يغلب عليها الطابع السياسي، وفيها كثير من التلفيق والكذب، والهدف - فيما يبدو – تحسين الصورة الرديئة وإلهاء الناس بآمال كاذبة عن الانفراج والرخاء القادم، ولأن الناس لا يملكون الوسيلة لمراجعة هذه البيانات على الواقع أو نقدها فإنهم يتلقونها باستسلام أو على مضض وينتظرون ما يأتي به الغد، ونادراً ما يأتي الغد بشيء أفضل...!
وإذا كان هذا يحدث عندنا كل يوم فإنه يحدث في بلاد أخرى أحياناً، ولكنه يتعرض هناك للنقد والهجوم والمساءلة، وقد يفقد المسئول وظيفته بتهمة الكذب على الشعب أو على ممثلي الشعب في المجالس النيابية (المحترمة)، وأعرف من خبرتي الشخصية أن وزير المالية في أستراليا عرّض حكومته وحزبه للسقوط في الانتخابات بسبب شيء من هذا، وأعرف وزير مالية آخر في بريطانيا استقال بسبب مماثل، أما في بلادنا المستقرة أبداً كالطود الشامخ فلا أحد من النخبة الحاكمة يسقط أو يستقيل خجلاً من الكذب على الشعوب.. ولا أحد يُحاسب حتى على الجرائم التى يرتكبها مهما بلغت بشاعتها.. وما قضية العبّارة المُغرقة والشهود المخطوفين وآلاف الأرواح المزهقة والباحثين عن العدل المُغيّب والحقيقة المُهدرة.. هذه القضية ليست إلا نموذجا واحدا لنمط سائد فى مجتمع مقهور.. ورمزا يدمغ عصرا كئيبا لمنظومة من السلطة.. ستذهب مثلا فى التاريخ على الاستبداد والفساد واستباحة حقوق العباد وكرامتهم وإنسانيتهم...
من ناحية أخرى تزايد شعوري بعدم الثقة في كثير مما يقوله المفكرون والمنظّرون الاقتصاديون، فقد لاحظت في كلامهم وتوقعاتهم تناقضات.. كما لاحظت أن المنظومات الاقتصادية لا تسير وفق مقولاتهم أو توقعاتهم، ومن ثم راودتني رغبة قوية في الاطلاع على أحدث ما نُشر من كتب في الاقتصاد، ولما كنت في لندن ولديّ متّسع من الوقت للقراءة طلبت من ابني وهو محاضر في الجامعة أن يختار لي مجموعة من كتب الاقتصاد.. فجاءني بسبع كتب من أهم ما ظهر من مؤلفات لكُتّاب بارزين.. تصفحتها جميعاً وقرأت منها موضوعات معينة على سبيل الاختبار فلم يستوقف نظري فيها شيء جديد، إلا كتاب واحد أثار شهيتي للقراءة بقدر ما أثارت أفكاره إعجابي إلى حد الذهول، فمؤلف هذا الكتاب يتحدث عن الاقتصاد بلغة جديدة ويتحدى كل المقولات والمسلمات الاقتصادية الشائعة، ويكشف عما فيها من زيف وادعاء، ويقتحم كل مقدسات الفكر الاقتصادي السائد بمنطق قوي جرئ.. وبتحليلات نافذة ويصل إلى نتائج لا تخطر على بال أحد..
عنوان الكتاب مثير في حد ذاته إنه (قبضة الموت: دراسة للنقود الحديثة.. عبودية الديون واقتصاد مُدمّر).. أما مؤلف الكتاب الذي اشتقت إلى لقائه ومناقشته فهو (مايكل روبثام).. اقترحتُ على الجامعة دعوته لإلقاء محاضرة حول أفكاره ومؤلفاته، وتكون مناسبة للطلاب والأساتذة لمناقشته.. وقد تولّى ابني دعوة المؤلف فاستجاب.. كنا في شهر رمضان وكان موعد المحاضرة قبل الإفطار بثلاث ساعات.. قضيناها بين استماع ومناقشات، ومتعة فكرية تجلّت فيها قدرة المحاضر على التحليل والإقناع وقوة المنطق.. فلما انتهت المحاضرة دعوناه للإفطار معنا ليشهد بعض تقاليد الأسرة المسلمة في هذا الشهر الكريم.. فرحب (روبثام) بالدعوة واعتبرها فرصة تستحق الاهتمام...
جاءتني الفرصة من أوسع أبوابها لمزيد من الحوار حول أفكار هذا المفكر الاقتصادي العجيب وحياته.. استغرق الحوار فيما بيننا شطراً كبيراً من الليل دون ملل.. فعلمت كثيراً عن حياته ومنطلقاته الإنسانية.. وأنه صاحب رؤية اقتصادية إصلاحية.. وأنه ليس وحيداً في هذه الرؤية.. وإنما يشاركه فيها كثيرون مثله من أحرار الفكر في بريطانيا وكندا واستراليا وفي دول أوربا.. إنهم يدعون إلى بناء منظومة اقتصادية جديدة متحررة من (الفائدة).. وإلى أسلوب مختلف في خلق النقود غير مؤسّس على الديون.. فلما لمس شدة اهتمامي بهذه الأفكار الجديدة قال: "أظن أنني أعرف مصدر اهتمامك هذا، إنه (إن لم أكن مخطئاً في تقديري) عقيدتك الإسلامية التي تحرّم الربا أليس كذلك..؟"، فأجبت: "بلى.. لقد أصبت الحقيقة.. ولكن ما يدهشني حقاً أنك بجهدك العقلي وتوجّهك الأخلاقي – متحرراً من أي أيدلوجية إسلامية مسبّقة – قد توصّلت إلى نفس النتيجة...".
كان حوار مثمراً وممتعاً بلا شك.. سمّه إن شئت حوار حضارات أو حوار أديان أو حواراً إنسانياً خالصاً لوجه الله والحقيقة.. ففيه شيء من كل هذا.. بلا قصد ولا ترتيب سابق ولا مؤتمرات دولية...!!
اللامعقول في ديون العالم المتقدم:
أول ما يصدمنا من حقائق في هذا الكتاب هي فداحة الديون التي تثقل هذا العالم المنكوب.. فهل تصدق مثلاً أن دول العالم كلها مدينة.. وليس فقط الدول الفقيرة أو دول العالم الثالث.. بل إن أكثر الدول ديوناً هي الدول الأغنى والأكثر إنتاجاً وتقدّماً.. وأن هذه الديون لا تتناقص أبداً بل في صعود مستمر.. ومن ثم وصف المؤلف هذه الحقيقة بأنها.. (اللامعقول واللامنطقي.. الذي يصعب على العقول فهمه).
من أمثلة هذا اللامعقول أن بريطانيا مدينة بمبلغ 400 بليون جنيه إسترليني، وتبلغ ديون كندا 650 بليون دولار.. وألمانيا مدينة بأكثر من خمسين بليون مارك.. واليابان 2 تريليون دولار.. أما أمريكا ففي القمة بدين بلغ أكثر من 5 تريليون دولار...
يقول (روبثام): هذا الدين الهائل المتصاعد يتناقض تناقضاً صارخاً مع وجود ثروة حقيقة واضحة في هذه الدول.. علماً بأن هذه الأرقام لا تمثل سوى جانباً من الديون يطلقون عليه اسم: الديون العامة أو ديون الدولة .. فإذا أضفت إليها الديون الخاصة (المتعلقة بالأفراد والشركات) تجد نفسك أمام أرقام فلكية.. على سبيل المثال: مجموع الديون العامة والخاصة في أمريكا بلغ 26 تريليون دولار.. [ولست أزعم أنني أعرف كم صفراً ينبغي وضعها على يمين رقم (26) هذا ليبرز حقيقته]... ولكنني على يقين أنه رقم مفزع.. كما أعلم أنه يستحيل تسديده لأسباب كثيرة.. لعل أبسطها أن مجموع ما في بنوك أمريكا والعالم وما في خزائن الشركات وجيوب الأفراد من دولارات (حقيقية) لا يبلغ خُمس هذا الرقم.. وهذا واحد من أكبر الألغاز الخفية في عالم الاقتصاد الحديث...
يتساءل روبثام: إذا كانت دول العالم – بلا استثناء – مدينة فإن هذا مبرر لنا لكي نعتقد أن العالم بأسره في حالة اقتصادية مزرية.. وهذا أمر يبدو غير منطقي وغير مفهوم وهو يسلمنا إلى تساؤل آخر: إذا كان العالم كله مدين فمن هو الدائن؟، ومن أين جاءت كل هذه الديون..؟!
وهذه ألغاز أخرى تحفل بها جعبة الاقتصاد العالمي ...
وماذا نقول عن دول العالم الثالث التي ترزح تحت أعباء ديون رهيبة وتطحنها مشكلات الفقر والجوع والتخلّف..؟، لقد أسلمت هذه الدول زمام قيادتها إلى الدول المتقدمة فأخذت تقلّد وتبني مؤسساتها المالية والاقتصادية على غرار مثيلتها في هذه الدول.. ويقال لشعوبها: اكدحوا في العمل والإنتاج والتصدير وسوف تتخلصون من الديون وتتحررون من الفقر وتصبحون مثل أمريكا..!، ولكن أحداً لا يذكر لهم حقيقة أن أمريكا هذه هي أكبر دولة مدينة في العالم.. فهل هذه حالة عبثية أم أننا لا نحسن فهم ما نراه..!
إن الدول المتقدمة تشهد صعوداً مستمراً في الإنتاج والثروة وهناك تقدم تكنولوجي مستمر يساعدها على تعظيم قدراتها الإنتاجية بأرقام هائلة.. فلماذا لا نرى الانعكاس المالي لهذه التنمية الهائلة في الواقع الاقتصادي..؟
بل إننا نلاحظ مع تعاظم الثروة زيادة في حجم الديون.. حتى أن بعض الاقتصاديين يعتبر زيادة الديون من مؤشرات التقدم..!
كان من المفترض وفقاً للمبادئ الاقتصادية المتداولة أن النقود وسط طبيعي ومقياس دقيق يعكس حقائق الواقع الاقتصادي.. ولكنها في الحالة التي عرضناها لا تفعل هذا.. فهناك ندرة مزمنة في النقود حتى أن الدول المتقدمة تقلّص ميزانياتها بحجة عدم توفر المال الكافي.. إذن لابد أن يكون هناك خلل جوهري في المنظومات المالية.. خلل يجعلنا نفقد الثقة في كثير من المبادئ والمسلمات الاقتصادية...
الندرة النقدية في الدول الغنية:
هذا إذن لغز آخر جديد في المنظومات الاقتصادية.. وأعنى به (الندرة النقدية) في مجتمعات متقدمة تتمتع بالثراء ووفرة الإنتاج.. فإذا انتقل المؤلف إلى تفسير هذا اللغز نُصدم بحقيقة أخرى عندما نعرف السبب.. وهو أن النظام النقدي قائم على أساس من الديون، وبتعبير مباشر وأكثر دقّة يقول: "إن النقود تنشأ في توازِ مع الديون.. ذلك لأن خلق النقود وتداولها متروك في أغلبه للبنوك التجارية إلى جانب بعض مؤسسات الإقراض الأخرى.. ويظن أكثر الناس أنهم عندما يذهبون للاقتراض من البنك فإنهم يقترضون أموال أناس آخرين سبق أن قاموا بإيداع نقودهم في البنك.. وهذا لا يمثل إلا جزءًا ضئيلاً من الحقيقة.. فالصحيح هو أن نقود القرض لا تكون بالضرورة موجودة بالبنك لحظة طلبها.. وإنما هي تنشأ ابتداءً عندما تتم عملية القرض.. فالبنك بعملية القرض لا ينقص وإنما يضيف إلى رصيده نقوداً جديدة لم يكن يملكها قبل القرض.. والمسألة كلها لا تخرج عن كونها أرقام في سجلات تنتقل بين (خانتي) دائن ومدين..!
أعترف أنني عندما قرأت هذا الكلام لأول وهلة لم أستطع أن أستوعب أو أستسيغ هذه الحقيقة الغريبة.. وقلت لنفسي لابد أن هذا المؤلف يهزأ بعقلي.. ولكن حيرتي بدأت تتلاشى تدريجياً كلما تعمّقت في قراءة الكتاب.. ففيه أمثلة شارحة أشير هنا إلى بعضها: جاء في تقرير (بنك انجلترا) سنة 1997م تقديراً لجملة النقد الوطني بمبلغ 680 بليون جنيه إسترليني، فإذا علمت أن وزارة المالية البريطانية قد أصدرت من هذا المبلغ 25 بليون جنيه فقط، فمن أين جاءت بقية المبلغ ومقدارها 655 بليون جنيه إسترليني.. وهو يمثل 97% من جملة النقود المتداولة في الاقتصاد البريطاني؟..
والإجابة ببساطة أن الذي خلق هذه النقود هو البنوك التجارية وأن هذه الكمية الهائلة من النقود نشأت من لا شيء، وسوف يصاب الناس بالذهول لأنهم يعلمون أنه إذا فعل هذا واحد منهم اعتُبر مزيّفاً للنقود.. وليس لمرتكب هذه الجريمة إلا السجن يقضى فيه بقية عمره.. والفرق الوحيد بين جريمة التزييف وما تفعله البنوك أن النقود التي تخلقها البنوك ليست هي الأوراق النقدية ولا العملات المعدنية التي تصكّها الحكومة.. وإنما هي نقود غير حقيقية أو غير طبيعية.. تمثل قيمة الديون والعقارات والأراضي المرهونة لدى البنك (فيما يسمى بالرهن العقارى)... [وما أدراك ما الرهن العقارى؟!، إنه البركة الآسنة التى يخوضها الاقتصاد الأمريكى منذ عدّة أشهر.. ويكاد الآن يغرق فيها]...
والمعنى المستخلص هنا هو أن الحكومة تعتمد في خلق النقود اللازمة لتسيير الاقتصاد على وقوع أبناء شعبها في الديون.. ومعناه أيضاً أن كل جنيه [استرلينى طبعا] موجود سواء في التداول أو في حساب بنكي هو دين معلّق في رقبة شخص ما أو مؤسسة أو شركة أو حكومة...
وقد يعترض بعض الناس فيقول: إذا كان خلق النقود بهذه الطريقة متروك للبنوك فلابد أن يكون هناك سبب وجيه لذلك.. ويرد المؤلف على ذلك بقوله: (على العكس من هذا تماماً) فليس هناك أي سبب لذلك.. بل أكثر من هذا توجد أدلّة لا حصر لها على الآثار المدمرة لهذه الطريقة في خلق النقود المعتمدة على القروض وما يترتب عليها من فوائد مركبة.. ليس في حياة الأفراد فحسب بل في حياة الشعوب والدول أيضاً...
الشراء بالرهن (والرهن العقاريّ) :
ويسمى اصطلاحاً Mortgage وهي عبارة فرنسية الأصل معناها (رهن الموت) أو (قبضة الموت) وهي الترجمة الحرفية باللغة الإنجليزية التي اختارها المؤلف عنواناً لكتابه.
وكان شراء الأراضي بهذه الطريقة معروفاً منذ القرون الوسطى.. ولكنه كان مُحرماً بحكم القانون المسيحي.. لأن الإنسان لا يضمن بقاءه على قيد الحياة حتى يتم تسديد أقساط ثمن الأرض.. فإذا مات تُنتزع ملكيتها منه بمقتضى العقد المبرم.. وقد تبدو الصورة في أيامنا هذه أقل كآبة حيث يتمكن قلّة قليلة من الناس من تسديد قروضهم بفوائدها في مجرى حياتهم بينما تظل الأغلبية من المشترين ديونهم معلّقة في رقابهم يسددون أقساطها حتى الموت.. ويسدد الورثة ما بقى منها...
من هذا البند وحده تضخمت أرصدة البنوك بأرقام فلكية.. ففي أستراليا مثلاً بدأ بنك (الكومنولث) سنة 1912 برصيد بلغ مقداره عشرين ألف دولار، فإذا به سنة 1984 يقفز إلى ما يقرب من ثلاثين ونصف بليون دولار.. وكان تعليق المعهد الأسترالي للديمقراطية الاقتصادية سنة 1989 في تقرير له بعنوان (لعبة النقود) كالآتي: "في تقييم الثروة الأسترالية بالنقد قامت البنوك بإصدار نقود على شكل ديون، ومن ثم حصلت على أرصدة تساوى ما يقرب من ثلث إجمالي الثروة في أستراليا... فهل تنبهت إلى اللعبة...!؟
هل صدم هذا الواقع عقلك كشيء مخالف لكل منطق..؟، إن مؤسسة ما لا تنتج شيئاً أكثر من أرقام في سجلات يمكن أن تستولي على ملكية موجودات أعظم بكثير مما تملكه صناعتنا الكبرى التي يعمل فيها مئات الألوف من الناس.. والذي يعتمد على إنتاجهم المادي كل اقتصاد أستراليا...!"
ولا يتوقف خطر النظام البنكي القائم على الديون والفوائد المركبة على أنه يسلب الأفراد ملكيتهم للمنازل التي يشترونها لسكناهم.. أو أنه يخرج الشركات والمؤسسات من ملكياتها ويدفعها إلى الإفلاس.. بل يمتد هذا الخطر إلى الحكومات والدول التي تضطر إلى الاقتراض لإطعام شعوبها الجائعة فإذا هي تهوى في مستنقع من الديون لا تستطيع تسديدها.. ولا حتى تسديد فوائدها فتضطر للاقتراض من جديد لتتمكن من تسديد الفوائد المستحقة على الديون، وتدخل بذلك في حلقة جهنمية مفرغة لا سبيل إلى الفكاك منها.. كما هو حادث بالنسبة للدول الإفريقية خاصة.. ودول العالم الثالث بصفة عامة.. وتلك قصة مأساوية نأتي إليها.. (إن شاء الله في سياق آخر)...
الديون شرط أساسي:
في المنظومات المالية الغربية – كما رأينا – لابد من وجود الديون لأنها هي الشرط الأساسي لتوفير المال اللازم لحركة الاقتصاد، وليست هذه حالة باقية عند مستوى معين تثبت عنده وإنما هي حالة دائمة التعاظم والتفاقم.. فقد كان مجموع الديون الصناعية سنة 1963م (في بريطانيا) 3.3 بليون جنيه إسترليني بنسبة 11% تقريباً من الدخل القومي الذي بلغ آنذاك ثلاثين بليون جنيه.. ارتفع هذا الدين سنة 1996م (أي بعد ثلاثة وثلاثين سنة) إلى 140 بليون جنيه بنسبة 20% من الدخل القومي البالغ قيمته 720 بليون جنيه..
أما ديون الأفراد سنة 1963 فقد كانت 4 بليون جنيه بنسبة 14% من الدخل القومي فإذا بها ترتفع سنة 1996 إلى 190 بليون جنيه بنسبة 70% من الدخل القومي...
هذا الطراز من النمو الاقتصادي القائم على تصاعد الديون له انعكاسه المباشر على الأسعار والدخول.. فالمنتجون يرفعون أسعار السلع لتعويض الديون والفوائد البنكية.. وبذلك تزداد تكاليف الحياة المعيشية على المستهلكين ويضطرون لمزيد من القروض وتسديد أقساطها وفوائدها.. وبهذا تزداد الهوة بين الدخول المتدنية والأسعار الصاعدة مما يؤدى إلى تضاؤل القوة الشرائية عند المستهلكين، كما تزداد الهوة بين الأغنياء والفقراء في المجتمع...
وهم الكوابح والضوابط:
لكي تعمل البنوك في المنظومة الاقتصادية الغربية بفاعلية تضع لها الحكومات –عادة– ضوابط أو كوابح حتى لا تسرف في خلق نقود على هيئة ديون إلى ما لا نهاية.. حيث يفترض أن يمثل النظام النقدي هرماً من الرصيد Credit له قاعدة راسخة من النقود الحقيقية أو (الطبيعة).. وأعني بذلك العملات المعدنية والنقود الورقية التي تصكّها الحكومة.. على هذه القاعدة يتم بناء هرم تتقارب أضلاعه كلما ارتفع بفعل قوانين تضعها الدولة تحدد بها حجم هذا الهرم ونموه.. ومن ثم يتوقف نمو الهرم عند نقطة معينة وارتفاع معين لا يمكن ولا يصح تجاوزه... من أهم هذه القيود ما يسمى بـ (نسبة السيولة) التي لا يصحّ أن تقل عن 10% من الأموال المتداولة في البنك.. ومعنى هذا أنه من حق البنك أن ينشئ في تعاملاته نقوداً بنسبة 90% عن طريق القروض.. حتى إذا بلغ الهرم قمته لم يعد من حق البنك أن يمنح عملاءه قروضاً جديدة.. حتى يتم حقنه بدفعة جديدة من النقود الحقيقية (السيولة) التي تصدرها الحكومة مُحررة من الديون.. وبذلك يستطيع البنك حينئذ أن ينشئ هرماً جديداً من القروض على أساس من هذه القاعدة الجديدة.. هذا هو المفترض من الناحية النظرية.. ولكن هذه النظرية لا يتم تطبيقها في الواقع العملي.. فقد وجدت البنوك سُبلاً كثيرة للالتفاف حول هذا القيد...
يلفت المؤلف نظرنا أيضاً إلى حقيقة أخرى من استغلال البنوك الشائن للعملاء.. تتمثل في الفرق الهائل بين الفوائد التي تمنحها للمودعين على ودائعهم، والفوائد الباهظة التي تفرضها على المقترضين.. وهكذا نرى أن المنظومات البنكية تقوم على الربا الفاحش منذ عصور، حتى أصبحت مصدراً للاضطرابات الاقتصادية وأصبحت بقروضها وفوائدها الباهظة عبئاً على المواطنين وعلى الاقتصاد الوطني...
والخلاصة هنا أن الاقتصاديين يصوّرون لنا أن النظام البنكي يعمل في إطار ضوابط وكوابح صارمة في حين أن هذا لم يحدث في الماضي ولا هو حادث الآن..!
يتبع