ولمزيد من التوضيح فلنعرض أنفسنا على السنة المطهرة، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ولنعرض بعض المظاهر التي أحسبُ أنها كافية في إيضاح الجفاء الذي اتصف به بعضنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسنته، لعل الله أن يزيد المهتدي هدى، وأن يبدل الجافي إلفاً، والبعيد قرباً، والغالي قصداً.
1- البعد عن السنة باطناً وظاهراً:
يأتي في أول تلك المظاهر البعد عن السُنة باطناً؛ وذلك بتحول العبادات إلى عادات ونسيان احتساب الأجر من الله، أو ترك متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمه، والمحبة القلبية الخالصة له، ونسيان السنن وعدم تعلمها، أو البحث عنها، وعدم توقير السنة، والاستخفاف بها باطناً.
ومن ذلك أيضاً: البعد عن السنة ظاهراً؛ وذلك بترك العمل بالسنن الظاهرة الواجب منها والمندوب ، وعلى سبيل المثال سنن الاعتقاد ومجانبة البدعة وأهلها بل وهجرهم، أو السنن المؤكدة مثل: سنن الأكل، واللباس، أو الرواتب، أو الوتر، أو ركعتي الضحى، وسنن المناسك في الحج والعمرة، والسنن المتعلقة بالصوم في الزمان والمكان، فصارت السنة عند بعض الناس كالفضلة، والله المستعان.
ولعمر الله لا يستقيم قلب العبد حقيقة حتى يعظم السنة ويحتاطَ لها، ويعملَ بها، هذا وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (
فمن رغب عن سنتي فليس مني) كما في الصحيحين [21]، وكان كلامه هذا -صلى الله عليه وسلم- في أمر الزواج وأكل اللحم ونحوهما.
وقد قال أَُبَيُّ بن كعب -رضي الله عنه-: «عليكم بالسبيل والسنة؛ فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله فاقشعر جلده من مخافة الله إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحاتُّ الورق اليابس عن الشجرة، وما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خالياً ففاضت عيناه من خشية الله إلا لم تمسه النار أبداً، وإنَّ اقتصاداً في سبيله وسنة خير من اجتهاد فيما خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا أن تكون أعمالكم اقتصاداً واجتهاداً على منهاج الأنبياء وسنتهم » [22].
2- ردُّ الأحاديث الصحيحة:
ومما يلاحظ من الجفاء رد بعض الأحاديث الصحيحة الثابتة بأدنى حجة من الحجج، كمخالفة العقل أو عدم تمشيها مع الواقع، أو عدم إمكان العمل بها، أو المكابرة في قبول الأحاديث، وتأويل النصوص وحرفها لأجل ذلك، أو رد الأحاديث الصحيحة باعتبار أنها آحاد، -وأغلب أحكام الشريعة إنما جاءت من طريق الآحاد-، أو دعوى العمل بالقرآن وحده، وترك ما سوى ذلك، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (
لا أُلفين أحدكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري؛ ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) [23].
وإن زعموا ما زعموا من وجوب وحدة المسلمين على القرآن وحده؛ فإن الله –تعالى- أوجب في القرآن الأخذ عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كل ما أتى به جملةً وتفصيلاً فقال تعالى: ﴿
وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7].
وقد ذكر الله –تعالى- طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في القرآن في ثلاث وثلاثين موضعاً، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (
ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) [24].
قال الحميدي: « كنا عند الشافعي -رحمه الله- فأتاه رجل ، فسأله عن مسألة؟ فقال: قضى فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كذا وكذا، فقال رجل للشافعي: ما تقول أنت؟! فقال: سبحان الله! تراني في كنيسة! تراني في بيعة! ترى على وسطي زنّاراً؟ ! أقول لك: قضى فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنت تقول: ما تقول أنت؟! » [25]. وقال مالك « أكلما جاءنا رجل أجدل من رجل، تركنا ما نزل به جبريل على محمد -صلى الله عليه وسلم- لجدله؟! » [26].
ويقول -رحمه الله-: « سنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وولاة الأمر بعده سنناً الأخذُ بها تصديقٌ لكتاب الله -عز وجل- واستكمالٌ لطاعة الله، وقوةٌ عى دين الله، من عمل بها مهتد، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى » [27].
قال ابن القيم -رحمه الله- : « ومن الأدب معه ألا يُستشكَل قوله، بل تُستشكَل الآراء لقوله، ولا يُعارض نصه بقياس، بل تُهدر الأقيسة وتلقى لنصوصه، ولا يُحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولاً، نعم! هو مجهول، وعن الصواب معزول، ولا يوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد، فكان هذا من قلة الأدب معه -صلى الله عليه وسلم-، بل هو عين الجرأة » [28].
دعوا كل قولٍ عند قول محمدٍ فما آمِن في دينه كمخاطر
3- العدول عن سيرته -صلى الله عليه وسلم- وسنته:
وفي عصر الإعلام يتجلى الجفاء في العدول عن سيرته -صلى الله عليه وسلم- وسنته وواقعه وأعماله إلى رموز آخرين من عظماء الشرق والغرب -كما يسمون-، سواء كانوا في القيادة السياسية ، أو في الفكر والفلسفة، أو في الأدب والأخلاق، والأدهى من ذلك مقارنة أقوال هؤلاء ومقاربتها لأقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأحواله، وعرضها للعموم والعامة؛ وتلك مصيبة تهوِّن على العوام التجني على سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وسنته، وتثير الشكوك في أقواله وأعماله التشريعية -صلى الله عليه وسلم- والتي هي محض وحي: ﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ﴿4﴾﴾ [النجم: 4]، لكن بعض الأذهان لا تتعلق إلا بالواقع المشاهد، واللحظة المعاصرة، فينبهرون بأولئك، وينسون العظمة التي عاشها النبي -صلى الله عليه وسلم- للأحياء وللأموات، للحاضر وللمستقبل، بل للحياة وللموت.
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شعب من الأجداث أحياهُ
وقد سمى الله الكفر قبل الإيمان موتًا، والإيمان حياة، قال تعالى: ﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ…﴾ [الأنعام: 122].
أخوك عيسى دعا مَيْتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من العدم
وأعماله -صلى الله عليه وسلم- ما زالت وستظل قائمة بأعيانها متحدثة بعنوانها عن عظيم وعظمة وحياة، ولا تحتاج إلى دليل وبيان:
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النار إلى دليل
ويلحق بذلك: تقديم أقوالهم على أقواله -صلى الله عليه وسلم-، وأحوالهم على أحواله، وأعمالهم على أعماله، ويا للأسف! من يقوم بمثل تلك الأعمال؟ إنهم رجال العفن وفئة من أهل الصحافة وبعض ساسة الإعلام والتعليم ممن تسوّدوا بغير سيادة، وقادوا بغير قيادة!!
4- نزع هيبة الكلام حين الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-:
وفي مجالسنا ومنتدياتنا يلاحظ المتأمل منا جفاءً روحانيًا يتضح في نزع هيبة الكلام حين الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وكأنها حديث عابر، أو سيرة شاعر، أو قصة سائر فلا أدب في الكلام، ولا توقير للحديث، ولا استشعار لهيبة الجلال النبوي، ولا ذوق للأدب النوراني القدسي، فلا مبالاة، ولا اهتمام، ولا توقير، ولا احترام، وقد قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ﴾ [الحجرات: 2]، هذا أيها الناس هو الأدب الرباني؛ فأين الأدب الإنساني قبل الأدب الإسلامي؟
كما نهى الله قوماً كانوا ينادونه باسمه: « يا محمد » كما ذكره كثير من المفسرين، فيسلب المنادي الشرف الذي تميز به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو النبوة والرسالة، وهذا ليس على إطلاقه، لكنه أدب فتأمله.
« كان عبد الرحمن بن مهدي إذا قرأ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر الحاضرين بالسكوت؛ فلا يتحدث أحد ، ولا يُبرى قلم، ولا يبتسم أحد، ولا يقوم أحد قائماً ، كأن على رؤوسهم الطير، أو كأنهم في صلاة؛ فإذا رأى أحداً منهم تبسم أو تحدث لبس نعله وخرج » [29]. ولعله بذلك يتأول الآيات الثلاث في أولاً سورة الحجرات؛ كما تأولها حماد بن زيد بهذا المعنى [30].
« وكان مالك -رحمه الله- أشد تعظيماً لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكان إذا جلس للفقه جلس كيف كان، وإذا أراد الجلوس للحديث اغتسل وتطيب ولبس ثياباً جدداً وتعمم وقعد على منصته بخشوع وخضوع ووقار، ويبخر المجلس من أوله إلى فراغه تعظيماً للحديث » [31].
ولذا حرص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على تعليم الناس تعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم- ميتاً كتعظيمه حياً، وذلك من تمام وفائه للنبي -صلى الله عليه وسلم-، روى البخاري -رحمه الله- عن السائب بن يزيد، قال: ( كنت نائماً في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال: اذهب فائتني بهذين فجئته بهما، قال: من أنتما؟ أو: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- !! ) [32].
5- هجر أهل السنة أو اغتيابهم والاستهزاء بهم:
ويلحق بالجفاء: جفاء القلوب والأعمال تجاه من خدموا السنة، ويتمثل ذلك في هجر أهل السنة والأثر العاملين بها، أو اغتيابهم ولمزهم والاستهزاء بهم واستنقاص أقدارهم، وانتقادهم وعيبهم على التزامهم بالسنن ظاهراً وباطناً.
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
وتصور حالة الغربة والغرباء تجد قلتهم في هذا الزمن وغيره، وقد سبقنا إلى تصويرها ابن القيم حين قال:
وأي اغتراب فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تَحَكُم
ولكننا سبي العـدو؛ فهل تُرى نعـود إلى أوطاننـا ونسلـم
وفي وصف أهل السنة والأثر يقول -صلى الله عليه وسلم-: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك) [33].
وعيرني الشوان أني أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
وهذا أحد السلف وهو الجنيد بن محمد يقول: « الطرق إلى الله –تعالى- كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول -صلى الله عليه وسلم- واتبع سنته ولزم طريقته؛ فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا ﴿21﴾﴾ [الأحزاب: 21] [34].
أما من لم يدرك السنة والعمل بها فلا همَّ له إلا الكلام والملام.
اقلِّوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم أو سدّوا المكان الذي سدّوا
وفي الحقيقة أن من تكلم فيهم لا يضر إلا نفسه:
كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يُضِرْها، وأوهى قرنَه الوعلُ
ولعل هذا أيضاً مما ينشر السنن بين الناس:
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت؛ أتاح لها لسان حسود